من أجل الخيار الأكثر جذرية: الثورة الجمهورية
أكتب هذه الكلمات بُعيد الانتخابات الأمريكية 2020، وهي الفترة التي تقوى فيها مظاهر متلازمة “فقدان الأمل من الديمقراطية” لدي، والتي يتزكى نارها بعد كل انتخابات أمريكية. كلشيء حول ترامب (يميناً ويساراً) هو النقد الكلاسيكي للعملية الديمقراطية وحتمية انحطاطها، والتي تودي بالمؤمنين—حقاً—بها إلى تشاؤم عام. وجدت هذا الوقت هو الأنسب لكتابة هذه المادة كدعوة لتوجيه النقاشات السائدة نحو هذا الشأن المهم، ولربما إعادة لملمة أفكاري على الأقل حول “الديمقراطية”.
أبدأ استعراض المسألة بمشاهدة. يتراءى لي أن الطموح التحررية لعصرنا تقتصر على الديمقراطية، ويبدو الأمر لوهلة كما لو أنها لدى الكثيرين مجرد كلمة اعتنقوها بعد تعرضهم لبروباغاندا ديمقراطية، فما عادوا ينشدون غيرها، على أنها الحل الذي يعمل أوتوماتيكياً لبناء دولة محترمة. سيزيد الطين بلة كون الديمقراطية المسوق لها هي نوع معين: الديمقراطية الليبرالية، ويكاد يصدم المرء عندما يعرف أن هناك “ديمقراطيات” بأنواع مختلفة، وليست هناك ديمقراطية واحدة. هذا التحجر واللاديناميكية والميتافيزيقية الأشبه بالدين جعلت من “الدعوة” الديمقراطية سقفاً اسفلتياً صُبَ ليحد من تطلعات الناس وليدفعهم للتسليم بحل سحري دون تفكير أو نقد كاف، مساهماً في ظاهرة تقاعس سياسي عام وفج لرأس الطامحين بشكل أبعد مما هو ملقن.
وبلة الطين، أي “الليبرالية”: التحرر من القيود وفتح الباب على مصارعيه لجميع الأيديولوجيات والهويات للنشاط السياسي، لم تكن مجرد بللٍ بريء، بل عسلٍ مسموم كما سنرى. ولم تكن الليبرالية يوماً الخيار الوحيد للتحررية، ولا هي الوضع القياسي للتحرر أصلاً. ونقدها الأساسي والأكثر جدية أتى من التيار الجمهوري.
ما حصل في سياقنا السوري الخاص، أننا دخلنا الثورة بأيديولوجيا[ت] مجبولة لنا مسبقاً دون أن يكون لنا مساحة لجبلها بأيدينا. الديمقراطية الليبرالية أحدها، والتي لم نملك رفاهية تجاوزها، لا نظرياً ولا عملياً، نحو خطوة تالية أكثر تطوراً. هكذا، لم نختبر تمريناً ذهنياً مهماً وشرطياً للنجاح يجبرنا على مواجهة تحديات سياقنا الخاص واستغلال نقاط تفوقنا المميزة.
رومانسية حالمة وبساطة الحلول وسطحية المحتوى وسذاجة الاقتراح وسيولة الرأي والاستهتار بالموارد الاجتماعية للشعب السوري يثير الحاجة للبحث عن حل أكثر جذرية للمشاكل التي نواجهها، أكثر جذرية حتى من ديمقراطية ليبرالية ثورية. هي رحلة للعثور على أرضية قوية ومستقرة وواقعية، سبّاقة لكل ما هو ديمقراطي، ليبرالي، عامة كفاية لتحتوي الأيديولوجيات المنافسة، ومحددة كفاية لتعطي أدوات محسوسة. إننا ننشد الجمهوروية.
_______________________
المشكلة بالمجتمعات غير الجمهورية
إن معمعة الأيديولوجيات لا تنتهي، وافتراض صحة أحدها من خطئه هو أمر لا يخلو من عشوائية سوداء وطغيان الصدفة. ليس هذا مشكلة بذاته فكل الأيديولوجيات تعاني من هذا الأثر المتعضي، بل المشكلة بتناسي هذه الخاصية، وفتح سوق حرة للأيديولوجيات بدون حدود، أي دون مانعٍ يحد الطغيان الحتمي في أي أيديولوجيا من النمو والسيطرة.
للأيديولوجيا دورة حياة و تغيير في حالاتها. قد تشطح بعض الأيديولوجيات لحالة معلولة وسلبية تماماً، فتعلو بعد ذلك المطالبات لخلعها بشكل مبرر، لكننا ندرك من التاريخ أن قمع الأيديولوجيا المعلولة يحتمل بشدة أن ينتهي الأمر بشكل تسلطي ما لن يرحم الأيديولوجيا الحميدة أيضاً، وسينهار نحو الظلم والديكتاتورية والانغلاق. بالمقابل، فتح باب الأيديولوجيات على مصراعيه سيؤدي إلى فوضى مثيرة للشفقة وتغلغل لأيديولوجيات ضارة ستؤدي عاجلاً أم آجلاً لإفقاد الإيمان بكل ما هو ديمقراطي وشعبي، وسيسمح لدخول المُربِك والأجنبي والمجبول مسبقاً لشعب في أمس الحاجة لبناء سياقه المحلي بيده. لهذا تماماً، فإن ما نحتاجه هو بناء النظام الذي يمتاز بقدرته على امتحان الأيديولوجيات وفلترتها بشكل موضوعي. إنه ليس الانغلاق وراء باب مقفول، ولا فتح الباب على مصراعيه، بل وضع حاجب له.
وعن الحرية الليبرالية، أي المتحررة مطلقاً من كل عقال، فإنها لا تنجع. لمّا كان الإنسان كائناً يملك شرّاً وخيراً في نفس الوقت، فإن تحرير الإنسان مطلقاً يحرر شرّه أيضاً. نتحفز هنا لسؤال نجيب عليه لاحقاً: هل هناك من طريقة تقيد شر الإنسان، وتحرر خيره فقط؟.
تحفز الليبرالية انتهاء السياسة بأشكال لاسياسية تعتمد على الصرعة والتطرف الفرداني والأقلوية (كالحراكات الجندرية والتيارات الإثنية وأخواتها). الصرعة، أي المواضيع المسوّق لها عالمياً مهما كانت بعيدة عن سياقنا المحلي، والتطرف الفرداني أي الذي ينتهي بالتوحد وتجاهل اجتماعية الإنسان، والأقلوية أي تغلغل سياسات الهوية بشكل مَرَضي يبحث عن صغرى الهويات وتقاطعاتها لتحفيز وعيها بنفسها وتقليب حساسيات وصدمات تاريخية منسية أو غير موجودة أحياناً.
وترتبط الليبرالية أعلاه مع النزعة الفردانية، أي تفضيل الحرية السلوكية للفرد فوق حرية الجماعة وتثمين الاكتفاء الذاتي الفردي. كأي أيديولوجيا عادية، تحمل الفردانية جانباً إيجابياً، لكن أدت التفسيرات المتطرفة لها لهيمنة الجانب السلبي، حيث تُتفهُ القضايا الجماعية، ويُطالب كائن اجتماعي كالإنسان بالتوحد، بل ويُقدّر على ذلك. في عصر فرداني جداً، تغدو بعض الواجبات العادية للفرد اتجاه الجماعة (الابن اتجاه الأهل، المواطن اتجاه المجتمع المدني والأهلي، الثائر اتجاه زملائه الثوار) تفضّلاً، بل ويحتفل به الفرد كأنه انجاز عظيم ومفصلي. ومن المَرَضي مؤخراً ظهور شريحة من الفردانيين، ممن يروجون لتفضّلهم ويحتفون بإنجازات اجتماعية وهمية (أقل من عادية، بل ومضرّة) أمام الملأ طالبين التصفيق. الفردانية المتطرفة تودي حتماً لتعارض وتناقض نفسي، وما هي إلا مثبط للتعاون وأداة للتذمر والتمسكن وتبرير واهم أمام الذات للتقاعس عن الإصلاح على مستوى اجتماعي موسع.
وعلى صعيد نفسي أكثر، يتشكل في هذه المجتمعات غير الجمهورية نماذج قيادية وقدوات معينة، تحابي التطرف أو التغييب وعادة ما تكون مثُلاً عليا عمياء أيديولوجياً ولا تنقد نفسها، اعتنقها صاحبها تحت ضغط العاطفة دون تعقل، واجتزأ منها الظاهر دون تمحيص الباطن، ووصلته بحكم التسويق والتعريض لا بحكم البحث الطوعي الحيادي. لا أخجل من سرد قائمة القدوات التي أسمع عنها: شجاعة خالد بن الوليد، وتحرر سيمون دو بوفوار، وعقلانية ريتشارد دوكينز، وروحانية الإمام الغزالي، وقوة أردوغان، وجسد كيم كارداشيان.. الخ.
تغدو الفتاة عشبة تعيش في خيالها وقراءاتها المحدودة، وإن قررت النشاط تغدو نسوية مزعجة لا ترى أبعد من جندرها المتخيل. يغدو الشاب علقة تقتات على جاهة افتراضية وإنجازات واهمة، وإن نشط، يغدو جهادياً أو مطبّلاً أعمى (أو علمانياً مزعجاً ومراهقاً إلحادياً إن أردت). ما تشترك عليه جميع هذه المثل هي رفضها للمتوازن والعملي الملتزم. التوازن بين العقل والعاطفة، العلمانية والدين، البراءة والخباثة، القسوة واللطف..الخ. من الصعب أن يكون النموذج القيادي السائد هو أبو الحزم بن جهور، وبالكاد يعرف به أحد. سيمون دو بوفوار وسارتر وحتى دوكينز مراجع أخلاقية اليوم أقرب من كانط وسيسرو. في بيئة تثمّن قصص الصدفة الناجحة بدلاً من وقائع الخطة المحكمة، والزخم العاطفي في اللحظات الحرجة بدلاً من التعقل والتثبت في أيام الخضات، تغدو القدوة وجهاً صنماً لا معنى له سوى مكاناً يملأ فراغاً ذهنياً يجب ملؤه، يغدو صورة كرتونية يرسمها الفرد بنفسه لتكون مجرد إسقاط شخصي لعازاته العاطفية. لا درس ليستفيد منه، ولا وجود حقيقي لتلكم الأشخاص القدوة، و عادة وهم ذاتي من حكمة متخيلة بقدرة الفرد لوحده على تغيير قدرٍ جماعي.
في هذه البيئات، حيث الفردانية مقدّرة، والصراخ يستجلب انتباه السوق، والنماذج والمثل القيادية مزاحة نحو شكل سيء ومقفول، والمساحات النقدية مغلقة، و”حرية” التنطق مفتوحة (ولا أقول حرية الرأي والتعبير، فالرأي ينبع عن تعقل، والتنطق مجرد صوت)، يقع أمر بالغ السوء، إذ يتم تثقيل أصوات الوجوه الأكثر تطرفاً وصراخا. وتثقيل الرأي أقصد به أن هذا الشخص يعطى ثقلاً أكبر من الشخص والتابع العادي، ثقلٌ يكافئ أحياناً القاعدة الشعبية كلها، وهكذا يمكن اختزال قاعدة شعبية كاملة بوجهٍ واحد. التابع المغمور لن يسمع صوته مهما كان رأيه متعقلاً ومحسوباً، والوجه الصنم سيأخذ كل الضوء مهما كان صوته ضجيجاً وغير مفهوماً.
_______________________
النظام الجمهوري – كعقلية
بداية، أود نفي صورة ساذجة عن مقصدي بكلمة “جمهورية”. قد يخيل للبعض أن معنى كلمة جمهورية هو “تلك الحكومات التي يحكمها رئيس دولة بثياب مدنية، لا ملك، ولا كاهن/شيخ”. أتمنى من القارئ نسيان هذه الفكرة تماماً، والتركيز مع حجج هذه المقالة بدءاً من الصفر ودون أنماط مسبقة. الجمهورية التي نعنيها في هذه المقالة لا علاقة لها بالـ”جمهورية” الساذجة التي تنصلت منها للتو.
أود تقديم الجمهوروية على أنها عقلية قبل كونها اتجاهاً سياسياً. تعتمد هذه العقلية على أداتان فكريتان هما “التجريد” و”الضوابط والموازنات Checks & Balances”. التجريد أقصد به تحليل الأشياء المركبة للتعرف على مكوناتها الصافية بشكل منفصل، ثم العمل على إدراك وظائفها فرادى . كما في الكيمياء، يُحلَلُ(يُجرَد) ثاني أوكسيد الكربون إلى أوكسجين وكربون، ويتصف الأوكسجين بقابليته للاحتراق، بينما يتصف الكربون بتخزين الحرارة. عندما يجتمع هذان العنصران معاً لتشكيل الماء، يتصف الماء بصفات مختلفة عن الكربون لوحده، والأوكسجين لوحده. احتاجت البشرية بضعة آلاف من السنين لاكتشاف الموضوع وفهمه بهذا الشكل. نعطي مثالاً سياسياً أكثر، لنأخذ فكرة “الحكومة”. قامت الجمهورية الرومانية بتجريد فكرة الحكومة إلى ثلاثة بنى: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، وفصلت بين السلطات الثلاث (أي باتت كل سلطة تعمل بتنسيق متفق عليه، لكن دون إدلاء من سلطة أخرى).
أما الضوابط والتوازنات، فهي مبدأ عملي قد يكون الأهم، يقوم على منع أي بنية سياسية أو اجتماعية من النمو دون ضابط أو مانع، حيث يعمل “الضابط” على اختبار صحية تغيرها ونموها وتذكيرها بحدودها الطبيعية دورياً. هذا الضبط والامتحان يمنع أي بنية من أن تملك ثقلاً فوق قيمتها ويقطع عليها الطريق في حال سعت للكبر فوق ما تستحق، لذلك دعيت “توازنات” أيضاً. أعود مرة أخرى لمثالي من الجمهورية الرومانية، حيث توازن السلطات الثلاث بعضها، توازن السلطة التشريعية (كالبرلمان) السلطة التنفيذية (كالرئيس)، وتوازن السلطة القضائية (كالجهاز العدلي والمحكمة الدستورية) السلطة التشريعية. فإن أراد رئيس ما التسلط يوماً، وجد برلماناً قوياً ليصده. وهكذا دواليك. يتعقد جهاز الضوابط والتوازنات كلما تعمقنا أكثر في السياسة والمجتمع.
القدرة على تجريد المشاهدات الاجتماعية والسياسية أساسية لأي جمهوري. الوعي بوجود بنى منفصلة مجردة صرفة كالفرد، والجماعة، والمجتمع، هي الخطوة الأولى للتعامل مع الواقع. تأتي الخطوة التالية عند بناء نظام الضوابط والتوازنات. على المجتمع أن يقطع الطريق على تطرف الفرد، وعلى الفرد أن يقطع الطريق على تطرف المجتمع.. الخ.
يغدو العالم للجمهوري كمجموعة من المجردات التي تحتاج ما يوازنها بشكل عملي وواقعي. أي سلوك اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو فردي سيتم التفكير به والتخطيط له وبناءه كنظام متماسك يخضع لضوابط وتوازنات، حيث يحرص نظام كهذا على منع أي طغوة تعسفية لأي أيديولوجيا أو حركة كانت—مهما بدت معسولة الكلام— من الهيمنة الطاغية. تباعاً، الثورة للجمهوري، مثلها مثل أي بنية، هي نظام يوازن نفسه ولا يسمح بالانهيار نحو الطغيان أو التعسف أو قلة الحيل أو البعد عن الهدف. كل أيديولوجيا وفكرة تواجه ذات التدقيق والتمحيص والتحدي الذاتي.
النظام الجمهوري هذا أعقد من تبسيطات الوعود الديمقراطية أو الليبرالية. على الجمهوري الحقيقي التحلي بملكة فكرية ونقدية قوية تجعله يستنبئ السيناريوهات التي تخل بنظام الامتحانات والضوابط والتوازنات ذاك. يتفاعل الجمهوري مع الحاضر بالمحافظة على الضوابط والتوازنات. ويتفاعل مع المستقبل بجبل الخطوط العريضة للمستقبل المطلوب، بواقعية وبطء إن احتاج الأمر، ودون أن يظلم إرادة الأجيال القادمة ويقيدهم برجعية الموتى. ويتفاعل مع الماضي باستغلال قصص مضت—معينة بذاتها إن احتاج الأمر—لصالح أجندة الحاضر والمستقبل. يبني الجمهوري كلشيء، ماضيه، حاضره، ومستقبله. هكذا يفسر “إمساك زمام القدر” بيده.
كان هذا عن العقلية الجمهورية، لننتقل إلى الشكل الفعلي السياسي لها.
_______________________
النظام الجمهوري – كنظام
تقوم السياسة الجمهورية عملياً على ثلاثة أعمدة: الفضائل المدنية، المجتمع المدني، والحكومة المختلطة. كما تتصف أيضاً بـ “الحرية الجمهورية” والتي تعاكس “الحرية الليبرالية” على الطيف التحرري.
الفضائل المدنية هي مجموعة من السلوكيات المحددة والحميدة المعمول بها في مجتمع ما. الفضائل المدنية معرّفة، تتضمن الصدقة والعمل الخيري ودعم المجتمع المحلي اقتصاديا والتبادلية، تدريب القوة الجسدية وبناء المهارة العسكرية، الولاء والصدق، الالتزام بالعهود، الرفقة الحسنة، البراعة العملية (كإنجاح المشاريع والخطط والتجارة)، معرفة قدر النفس، اتزان الرأي والطبع، والتواضع المعرفي. وتحت هذه اليافطة، يقع مفهوم الأخلاق، والمرتبط تاريخياً بالجمهوروية أشد ارتباط، فلا يمكن فصل كبار الأخلاقيين ككانط أو ميكافيلي أو سيسيرو عن نزعتهم الجمهورية. والأخلاق الجمهورية كما تحدث عنها هؤلاء تملك نزعة كونية مطلقية صريحة، أي يؤمنون بوجود أخلاق خالدة وثابتة تنطبق على الجميع ولا تتغير عبر الزمان والمكان. بالنسبة لكانط فإن النية الصالحة للإنسان واجب أخلاقي مطلق، والإنسانية غاية لا وسيلة، وبالنسبة لميكافيللي تحقيق الجمهورية—بأي وسيلة كانت، ومن هنا سرت الأسطورة أن ميكافيللي قال “الغاية تبرر الوسيلة”—هي غاية، وبالنسبة لسيسرو فهو في موقف وسط بين كانط وميكافيللي مع تشديد على فضائل رومانية كلاسيكية كالمذكورة أعلاه، فالرفاه الاجتماعي والإنساني طويل الأمد هو غاية. يتفق الجميع على خطوط عريضة ومعايير متماسكة هي الأساس في فلسفة الأخلاق المطلقية هذه، أمور بديهية مثل “لا تقتل بدون سبب”، “لا تغش”، “لا تكذب دون داعٍ”، “ساهم ما استطعت”، “عامل الآخرين كما تريد أن تعامل نفسك”. يرتبط هذا النوع من الأخلاق بـ”التجريد”، إذ عادة ما يجرد الجمهوريون “الإنسانية” كوحدة بذاتها ولها حقوق يجب رعايتها. بعبع الأخلاق المطلقية حاضر بشدة في الأوساط الليبرالية—الميالين للنسبوية الأخلاقية هذه الأيام، مستخدمين عادة حجج رجل قش.
ليس هذا وحسب، بل تعتبر هذه السلوكيات والأخلاقيات الحميدة رأسمال بالنسبة لصاحبها في الجمهورية. ليس المال وحده هو ما يُقيَّم المرء عليه، بل يقع تحت طائلة الفضائل المدينة أيضاً ما يسمى “الهيبة”، أو “الكرامة/الجلال”. يمكن صرف الرصيد الأخلاقي للمرء لشراء هيبة اجتماعية، فتكون عُملَة المرء أخلاقه، وكرامته هي سلوكه الحسن. هذا الخط هو ما ألهم جون ديوي، ومن بعده عالم الاجتماع المعاصر بيير بورديو لاصطلاح “الرأسمال الاجتماعي”. تلك المجتمعات التي تملك رأسمال اجتماعي أعلى، تكون أقوى، متآصرة ومتماسكة أكثر، وأفرادها يعيشون برفاه وثراء أعلى.
أما العماد الثاني، فهو المجتمع المدني، وهو مساحة مفتوحة للجميع لمناقشة الشؤون المهمة في سبيل اقتراح حلول لها (أو على الأقل توضيح المشكلة). هذا يمنع من تراكم المشاكل ويسمح لمواجتها مباشرة دون انفجار مستقبلي ما. تُؤطَر عادة هذه المساحات ضمن نوادٍ سجالية تشبه الأحزاب، أو مؤسسات غير حكومية ناشطة اجتماعياً وسياسياً. يعمل المجتمع المدني على تدريب المهارات وبناء القيادات ودعم المشاريع التنموية وسبر الاحتياجات والمشاكل وتقديم التوصيات والحلول لمسائل آنية حاضرة، كما يقدم منصة للآراء المكلومة، ويعمل على تسوية أقنية التواصل لتكون واصلة للجميع بنفس القدر. إنه يعرض مسائل جدية للناس العاديين طالباً تفاعلهم، فيغدو للإنسان العادي صوت، وتغدو القضايا أقرب للجد والواقع وأمنع من التتفيه والتسخيف. لدي سابقاً مقالة خاصة عن حالة المجتمع المدني في سوريا لمن يريد التفصيل.
في الوضع المثالي، يحل المجتمع المدني مشكلة تثقيل الرأي لأصحاب الجاهة والمنصب والشهرة التي تنسف القاعدة الشعبية تماماً، فالمجتمع المدني يواجه العوائق الظاهرة والضمنية التي قد تمنع الناس عن إيصال خوالجهم بشكل طبيعي. يتضمن دور المجتمع المدني مساواة التعرض الإعلامي للعامي العادي مع ذي المنصب، فلا يغلب أحد الآخر إلا بالحجة وصحة الرأي. كما يساهم المجتمع المدني في إزاحة النماذج القيادية والقدوات لحالة “جمهورية” أكثر (أي تعكس الفضيلة والاتزان والواقعية وقيم المواطنة). نعم، المواطنة، فهي في العُرف الجمهوري: مقدار المساهمة للمجتمع المدني والأهلي والتحلي بالفضائل المدنية. وارتبطت الجمهورية—من خلال توظيف المجتمع المدني—ببناء الهوية الوطنية القوية العابرة للانتماءات الصغرى. مرة أخرى، يعوم “التجريد” على السطح، حيث يساعد المجتمع المدني الجمهوري على اختيار مجال الهوية العابرة ومعيارها، هل هي الإثنية؟ هل هي الدينية؟ الوطنية؟ هل هي ابتداع لم نسمه بعد؟.. الخ.
أخيراً، يتعامل الجمهوريون مع الحكومة على أنها كيان يجب موازنته دوماً. لا يوجد سبب منطقي يفرض نوعاً سياسياً وحيداً على الحكومة بما في ذلك “الديمقراطية”. اتركني من عسل الكلام، لماذا الديمقراطية مرغوبة لوحدها؟ فهي مليئة بالسلبيات، ويمكن أن تنهار بأية لحظة نحو الفوضى (كما تنهار الملكية نحو الدكتاتورية، والأرستقراطية نحو الأوليغارشية). كجزء من نظام الضوابط والتوازنات، يطالب الجمهوريون بحكومة مختلطة، أي لا يحكمها الشعب بالكامل، بل هناك ما يوازن الشعب (بالأحرى، الحالة السلبية منه: الغوغاء)، وهم نخبة سياسية مدربة جيداً على المسايسة، والتي بدورها تتوازن مع سلطة تنفيذية متركزة نسبياً في كيان/شخص واحد (الرئيس في عصرنا، لكن قد يكون مجلساً تنفيذياً نظرياً). هذا الترتيب يقسم البرلمان إلى مجلس أدنى (منتخب شعبياً) ومجلس أعلى (نخب برلمانية تملك حق نقض) ويعطي سلطات معتبرة لمكتب الرئاسة (أيضاً يملك حق نقض)، والجميع منتخب والجميع يوازن الجميع. كل هذه القيود، تضمن فعلياً الحرية، وهذا ما يأتي بنا إلى فقرتنا التالية، الحرية الجمهورية.
ما ندعو إليه هو حرية جمهورية، أي حرية لها ما يوازنها، حرية مقيدة بخطوط عريضة وفضائل طوعية متفق عليها تحافظ على مجال السياسة ضمن السياسة دون أن تنسكب على عصاب الهويات (وتودي لمصائب عديدة تباعاً، أحدها فقط هو تجييش وعي الأكثرية ودفعها نحو الاغتراب والاستقطاب والتطرف والسلطوية). الحرية الجمهورية هي نظام يقييد الجزء السيء من الحرية، حرية الشر. الحرية الجمهورية هي حرية مناطة اجتماعياً، ونعني ليست فقط التي يجيزها المجتمع، بل يحميها أيضاً، وهي أفضل للفرد على المدى الطويل من حرية مرفوضة اجتماعياً، وهذه الإناطة والإشراط ليست معزة أو محبة خاصة للمجتمع، بقدر ما هي موازنة مع الفردانية. لم يحصل بعد أن خيض بالنقاش العام الذي يؤدي لتحديد هذه الحرية الفردية المناطة اجتماعياً، بل كنا لفترة اقتربت من العقد الآن مشتتين باكتشاف حرياتنا الفردية الصرفة. الحرية في الجمهورية هي حرية من التعسف والنزوة، أي تعسف وأي نزوة، وهي حرية لتحقيق الذات والمشروع الإنساني، حرية تطالبك برفع الرأس وتحقيق الطموح. لا تخجل الجمهورية من رفض العلقة والعشبة والعالة، أو نفي أزلام الطاغية أو إعدام الدكتاتور. في الجمهورية، “المواطنة” هي استحقاق، والكرامة هي ثقافة، ورأس المال هو أخلاق وعمل. لتكون حراً مطلقاً يجب أن تستحق حريتك، وتفي بشرط اتزانك دون الحاجة لما يمنعك من التعسف.
رواد الديمقراطية في العصر الحديث كانوا جميعاً جمهوريين قبل كلشيء، لهذا دافعوا عن مبادئ الديمقراطية بشدة (أي إدماج الشعب بالقرار السياسي)، فقد كانوا يعرفون بحضور الشرط اللازم والأرضية الثابتة والمناسبة لهذا المشروع الكبير، ما قصدوه حقاً هو اللحظة التي يبلغها الشعب من مهارة في تقرير مصيره السياسي بشكل صحي دون الحاجة لتدخل ما يضبطه أو يوازنه.. شعب يوازن ذاته ومتزن بذاته، شعب بذاته.
_______________________
المبادرة والابتكارية والابداعية في الجمهورية
تتصف الابتكارات الجديدة بأنها تفيد مبتكريها قبل غيرهم، وأحياناً جيلهم المحظوظ دون غيره من الأجيال. لنأخذ ابتكاراً أفاد البشرية جمعاء مثالاً، اللقاح. تفيد اللقاحات جميع البشر اليوم، لكن إن فكّر المرء قليلاً سيلاحظ أن أول جيل دخل عليه اللقاح كان أكبر المستفيدين، إذ هو، دون غيره من كل أجيال البشرية، سيحظى باستمرارية جينية شبه أبدية، وهو تفوق لم ولن يحظى به أي جيل بشري آخر. يمكن رسم أمثلة مشابهة لأي ابتكار، الكهرباء، السيارات، السلاح.. الخ. حيث عامل السبق الزمني كان كافياً لتحقيق تفوقٍ حاسم ومستدام لتلك المجموعة المبتكرِة على غيرها حتى بعد تعميمه.
يذهب ذات الشيء على الابتكارات التجريدية والفكرية أيضاً. أول جماعة ابتكرت مفهوم الدولة تفوقت بشكل مستدام وعابر للأجيال على الجماعات التي لم تملك دولة. ولا تزال المجتمعات التي ابتكرت الرأسمالية والوطنية وغيرها من المفاهيم سباقة لغيرها في جميع الميادين تقريباً.
والعكس بالعكس يصح تماماً! في المجتمعات التي تتأخر بالابتكار، قد يرى آثار هذا التقصير أجيالٌ بعينها دون أخرى. في الحقيقة، كلما راكمت الأجيال أخطاءاً لم تحلها، كلما ستتأجل هذه الأخطاء نحو الجيل التالي لتنفجر بالنهاية على وجه جيل واحدٍ دون غيره وتظلمه بشدة محملة إياه وزر أجداده.
الابتكار السياسي قيمة جمهورية بارزة تنبع من قيمة أعمق هي “المبادرة“. في الوضع المثالي للجمهورية، أنت مشجع للترجل والتقدم لعرض أفكارك وبلورتها في الفضاء العام دون توصيم أو تعيير، الفضاء العام هنا هو مساحة حيادية لتحكيم أفكارك دون أن يكوّن أي حكم قيمة على شخصك، وفي هذا الوضع المثالي، يتقدم جميع أفراد الجمهورية لعرض كل الأفكار الممكن استخلاصها الموجودة في الحوض الاجتماعي. الابتكار هذا هو كمنجم الذهب بالنسبة للجمهورية.
ابتكار أمر غير موجود بعد أمر صعب، إذ أن الإنسان يجنح بشدة للمألوف والمعروف. أشاهد هذا في تعاملنا كسوريين مع الوضع السوري. نرى أي ظاهرة سياسية، حكومية كانت أو حتى على مستوى العمل اليومي (سياسات الموارد البشرية مثالاً)، كما لو أنها دين نزل به نبي ومات دون أن يسمح لنا بتغييره، أو فيزياء مكتوبة في كتاب كمجموعة من القوانين المتحجرة الموجودة في الطبيعة والخارجة عن إرادتنا، وليس لنا قوة عليها سوى تطبيق المعادلة بالورقة والقلم. الظاهرة هذه متغلغلة لدرجة مشلّة ومؤذية بل حتى تجذرت باللاوعي و باتت أمراً مأخوذاً به.. وما أظن إلا ظني أن هذه الظاهرة من آثار التدجين البعثي. بيد أن السياسة ديناميكية أكثر من هذا بكثير.. يمكنك تغييرها ضمن أعراف محددة، بل ويمكن إضافة سياسات جديدة كلياً!
سأضرب مقاربة عن الابتكار والمبادرة التي تشملها الرؤية الجمهورية. لنتخيل أنك ستبتبكر اختراعاً في وسائل النقل: يمكن لابتكارك أن يكون محسناً لآداء مراكب موجودة أصلاً، مثل ابتداع قطعة جديدة للمحرك، سنطلق على هذا النوع “المبادرة الناعمة”. بالمقابل، يمكن أيضاً أن يكون ابتكارك شيء جديد كلياً، وسيلة نقل أخرى لم نعرف بها من قبل ولم نملك لها إسماً سابقاً، لا هي سيارة ولا قطار ولا صاروخ، وهذا الابتكار كان متفوقاً أو مناسباً كفاية حتى غلب كل الوسائل الأخرى. ولنطلق على هذا النوع من الابتكارات بـ “المبادرة الخشنة”.
أتمنى إسقاط هذه المقاربة على السياسة. المبادرات هذه هي التي تحسّن من آداء الحكومة وتساهم بسياسات جديدة وفعالة. آمل أن يكون المرء قد ربط المبادرة الجمهوروية مع الثورة لوحده بعد استعراضنا السابق. ستلاحظ أن الثورة المنشودة هي فعلياً مبادرة جمهورية خشنة. مفهوم “الوطنية” مثلاً كان المبادرة الخشنة والرائعة للثورة الفرنسية. مفهوم الحقوق (وهي أمر مختلف عن القوانين!) كان المبادرة الخشنة للثورة الأمريكية ولربما الإنكليزية قبلها. إنها اختراعات جديدة كلياً لم يسبق لها أن وجدت ولم تملك إسماً من قبل، وارتجلها مبتكروها في لحظتها لكي تناسب سياقاتهم ولكي يحصدوا ثرواتها قبل غيرهم فيحققوا مكاسب ونصراً ما.
ظني ورؤيتي وتحليلي أننا (كربيع عربي، سوريا تحديداً) قدمنا بخجل شديد بعض المبادرات الناعمة، وأننا ضعيفون جداً بتقديم مبادرات خشنة—فعلياً لم نقدم أي واحدة. لسنا قاصرين عن تقديم مبادرات خشنة أبداً، للبعض، مجرد التوعية بحضور هذه المشكلة كافٍ لإيقاظهم من السبات.
كان معظم ما رأيته هو اعتزالية وانسحابية من القضايا المهمة وكأنه تسليم بقوانين الطبيعة(عكس المبادرة تماماً). يرى العلماني المعارض أنه غير معني بتقديم المساهمة للهوية السورية بسبب هيمنة الفصيل الاسلامي، فينسحب تماماً من كلشيء. يرى الإسلامي أنه غير معني بالهوية السورية لإنها هوية الأقليات والعلمانيين، فيمتنع عن المساهمة الجدية بالفكر الوطني.. ولغيرهم وغيراتهم ذات المواقف. إنه كما لو أن السوريين لا يملكون وعياً ذاتياً على قدرتهم على المبادرة والابتكار والتفكير المتفرد بشكل مستقل عن الآخرين، إنه كما لو أنهم يشترطون فراغ الفضاء العام لهم لوحدهم حتى يساهموا بشيء ما، وهذا أيضاً بظني من بقايا العبث البعثي بالعقول. إن شرب عدوك من بئر، فهذا لا يعني أن البئر والماء عدو!
السياسة قدر المرء وجماعته، ولا بد أن تستوعب عنصر المبادرة المُحكّمة لضمان التقدم والرخاء والتغيير الطبيعي والسلمي والمحافظة على المجتمع. فعلياً، ما نقول عنه “الجذرية الثورية” هو ليس إلا مبادرة سياسية خشنة.. فتشجع للمبادرة. #Sapere_aude
نظرية المبادرة لوحدها تحتاج نقاشات موسعة آمل أن “نبادر” للبدء بها ولا مكان لها في هذه المقالة سوى ذكرها بهذا الشكل.
_______________________
الرأسمال الاجتماعي في الجمهورية
يترتب طبيعياً من أي بيئة تثمن الفضائل المدنية، الاتزان ورجاحة العقل، النشاط المدني والتبادلية، والابتكار والمبادرة، أن ترى بالإنسان كنزاً مكنوناً. الرأسمال الإنساني هو التآصر الاجتماعي ومقدار الترابط الطوعي للأفراد بين بعضهم ومدى المعارف الموجودة والقابلة للاستخلاص في الحوض الاجتماعي هذا. الرأسمال الاجتماعي يمكن استثماره، بناؤه، تربيته، تهذيبه، تأطيره.. الخ. إنه كرأس المال المادّي.
الرأسمال الإنساني العالي أحد خواص المجتمع الجمهوري، حيث جميع المؤسسات والتكتلات تعمل بشكل واعٍ وموجه للمحافظة على هذا المورد.
أود إسقاط ما تبقى من هذه الفقرة على حالتين سوريتين من مشاهداتي الشخصية:
- الزواج والارتباط: في الحقبة المعاصر، أخذ السوريون الأسوء من أمرين، أخلاق الطبقة المتوسطة التي تؤخر الزواج، وأخلاق الدين الإسلامي التي تدفع نحو تعفف العزّاب. كان محتماً ضمن هذه البيئة أن يجد الفرد نفسه مرتبكاً وفي بيئة تعادي طبيعته وممارساته العادية، هذا أدى إلى تدهور اجتماعي بالغ ازداد أثره خلال الحرب، وحفّز الكثير من الميول العنيفة والعصابية والسلبية وكره المجتمع. وحتى عند الزواج، ازدادت معدلات الطلاق والهجران بشكل مؤلم. هذا المظهر غير العملي كان ليعتبر مشكلة كبرى في مجتمع جمهوري، حيث وحدتان اجتماعيتان أساسيتان كالعائلة والفرد يشهدان انهياراً واضحاً. إدارة الموضوع ستكون ضمن المشروع الجمهوري.
- الهوية: على الهوية الجامعة أن تكون نابعة بشكل عضوي من المجتمع، وأن تكون عامة كفاية كي تشمل أوسع عينة ممكنة. وعليها أن تملك وجوداً حقيقياً مقنعاً. أود أن أروي قصة لمقاربة هذه النقطة، وسأستخدم بطل أفلام الكرتون “باتمان” لمساعدتي. القارئون المتعمقون لقصص “باتمان” يعرفون “باتمانهم” جيداً، ويمكن لهم توقع حبكة قصصه أو حتى كتابة قصص جديدة عنه. الأهم من ذلك، إن أتيت بقصص عن بطل آخر، قل “سوبرمان”، وغيرت الإسم لباتمان وأعطيته لهم لقرائته، سيتمكن هؤلاء من استشعار الشذوذ الغريب عن الحبكة “الباتمانية” وسيرفضون القصة ويعتبرونها منحولة. هذا هو المقصود بالنمط الأولي الذي تكلم عنه كارل يونغ. سوبرمان وباتمان أنماط أولية مستقلة، وشعر الباتمانيون بعدم توافق بين قصة باتمان المنحولة والنمط الأولي الحقيقي لباتمان.
ذات الشيء يذهب للهوية الوطنية أو الأهلية، على الهوية أن تكون على توافق مع النمط الأولي واللاوعي الجمعي للمجتمع. فكّر بمسلسل باب الحارة، والذي يُشعِر السوريين بغرابة واستهجان، ومعظهم يرفضه بشدة. إنه على تنافر مع الأنماط الأولية للمجتمع السوري ولاوعيه الجمعي.
الهوية الفاشلة أو الضعيفة ستودي بالاجتماع البشري إلى الخراب، ولهذا نرى أن العمل على بناء هوية قوية هو من المآثر الجمهورية المهمة.
_______________________
خاتمة
الديمقراطية المستندة والمشترطة على أساس جمهوري لن تظهر بمظهر مزعج يدفع للكفر بها كالذي ذكرته في بداية هذه المقالة. حقاً، الجمهوروية ستكون مفتاحاً أساسياً في حل العديد من المشاكل. تحدثنا عن بعض هذه المشاكل وحلولها المقترحة، وقمت بضغط الكثير من الأفكار في مساحة ضيقة: أزمة اليوم، الحرية الجمهورية، النقد الجمهوري لليبرالية، العقلية الجمهورية، المجتمع المدني، النظام الجمهوري كسياسة، الرأسمال الاجتماعي والبشري، الهوية والبنى الأولية، باتمان.. وغيرها.
كما قلنا، ننشد مفهوماً جذرياً، سباقاً على الأيديولوجيات السائدة، عاماً كفاية ليحتويها، ومحدداً كفاية ليولد أدوات محسوسة. للجمهوروية أدوات واقعية وعملية وتخاطب مشاكل معينة وثابتة. إنها ليست بتخبط اليسار أو اليمين، بل حقاً، هي أحوى وأسبق. كانت العينة المستهدفة لليسار سابقاً هي الطبقة العاملة، فيما هي اليوم مزيج غريب من دعاة ما بعد الحداثة ومهووسي الهويات الأقلوية. الجمهوروية ليست هكذا، فعينتها المستهدفة ثابتة. الجمهوروي قد يكون يسارياً، أو يمينياً، أو وسطاً، أو يتنقل بينها، لكنه يبقى جمهورياً مهما حصل، وهذا ضمان نجاح مشروعه الوطني أو الثوري وعدم فشله. الجمهوري لا يسأل نفسه “ماذا عن اليوم بعد انتصار الثورة؟”، فهو يعرف الإجابة تماماً.