من أجل الخيار الأكثر جذرية: الثورة الجمهورية

أكتب هذه الكلمات بُعيد الانتخابات الأمريكية 2020، وهي الفترة التي تقوى فيها مظاهر متلازمة “فقدان الأمل من الديمقراطية” لدي، والتي يتزكى نارها بعد كل انتخابات أمريكية. كلشيء حول ترامب (يميناً ويساراً) هو النقد الكلاسيكي للعملية الديمقراطية وحتمية انحطاطها، والتي تودي بالمؤمنين—حقاً—بها إلى تشاؤم عام. وجدت هذا الوقت هو الأنسب لكتابة هذه المادة كدعوة لتوجيه النقاشات السائدة نحو هذا الشأن المهم، ولربما إعادة لملمة أفكاري على الأقل حول “الديمقراطية”.

أبدأ استعراض المسألة بمشاهدة. يتراءى لي أن الطموح التحررية لعصرنا تقتصر على الديمقراطية، ويبدو الأمر لوهلة كما لو أنها لدى الكثيرين مجرد كلمة اعتنقوها بعد تعرضهم لبروباغاندا ديمقراطية، فما عادوا ينشدون غيرها، على أنها الحل الذي يعمل أوتوماتيكياً لبناء دولة محترمة. سيزيد الطين بلة كون الديمقراطية المسوق لها هي نوع معين: الديمقراطية الليبرالية، ويكاد يصدم المرء عندما يعرف أن هناك “ديمقراطيات” بأنواع مختلفة، وليست هناك ديمقراطية واحدة. هذا التحجر واللاديناميكية والميتافيزيقية الأشبه بالدين جعلت من “الدعوة” الديمقراطية سقفاً اسفلتياً صُبَ ليحد من تطلعات الناس وليدفعهم للتسليم بحل سحري دون تفكير أو نقد كاف، مساهماً في ظاهرة تقاعس سياسي عام وفج لرأس الطامحين بشكل أبعد مما هو ملقن.

وبلة الطين، أي “الليبرالية”: التحرر من القيود وفتح الباب على مصارعيه لجميع الأيديولوجيات والهويات للنشاط السياسي، لم تكن مجرد بللٍ بريء، بل عسلٍ مسموم كما سنرى. ولم تكن الليبرالية يوماً الخيار الوحيد للتحررية، ولا هي الوضع القياسي للتحرر أصلاً. ونقدها الأساسي والأكثر جدية أتى من التيار الجمهوري.

ما حصل في سياقنا السوري الخاص، أننا دخلنا الثورة بأيديولوجيا[ت] مجبولة لنا مسبقاً دون أن يكون لنا مساحة لجبلها بأيدينا. الديمقراطية الليبرالية أحدها، والتي لم نملك رفاهية تجاوزها، لا نظرياً ولا عملياً، نحو خطوة تالية أكثر تطوراً. هكذا، لم نختبر تمريناً ذهنياً مهماً وشرطياً للنجاح يجبرنا على مواجهة تحديات سياقنا الخاص واستغلال نقاط تفوقنا المميزة.

رومانسية حالمة وبساطة الحلول وسطحية المحتوى وسذاجة الاقتراح وسيولة الرأي والاستهتار بالموارد الاجتماعية للشعب السوري يثير الحاجة للبحث عن حل أكثر جذرية للمشاكل التي نواجهها، أكثر جذرية حتى من ديمقراطية ليبرالية ثورية. هي رحلة للعثور على أرضية قوية ومستقرة وواقعية، سبّاقة لكل ما هو ديمقراطي، ليبرالي، عامة كفاية لتحتوي الأيديولوجيات المنافسة، ومحددة كفاية لتعطي أدوات محسوسة. إننا ننشد الجمهوروية.

_______________________

المشكلة بالمجتمعات غير الجمهورية

إن معمعة الأيديولوجيات لا تنتهي، وافتراض صحة أحدها من خطئه هو أمر لا يخلو من عشوائية سوداء وطغيان الصدفة. ليس هذا مشكلة بذاته فكل الأيديولوجيات تعاني من هذا الأثر المتعضي، بل المشكلة بتناسي هذه الخاصية، وفتح سوق حرة للأيديولوجيات بدون حدود، أي دون مانعٍ يحد الطغيان الحتمي في أي أيديولوجيا من النمو والسيطرة.

للأيديولوجيا دورة حياة و تغيير في حالاتها. قد تشطح بعض الأيديولوجيات لحالة معلولة وسلبية تماماً، فتعلو بعد ذلك المطالبات لخلعها بشكل مبرر، لكننا ندرك من التاريخ أن قمع الأيديولوجيا المعلولة يحتمل بشدة أن ينتهي الأمر بشكل تسلطي ما لن يرحم الأيديولوجيا الحميدة أيضاً، وسينهار نحو الظلم والديكتاتورية والانغلاق. بالمقابل، فتح باب الأيديولوجيات على مصراعيه سيؤدي إلى فوضى مثيرة للشفقة وتغلغل لأيديولوجيات ضارة ستؤدي عاجلاً أم آجلاً لإفقاد الإيمان بكل ما هو ديمقراطي وشعبي، وسيسمح لدخول المُربِك والأجنبي والمجبول مسبقاً لشعب في أمس الحاجة لبناء سياقه المحلي بيده. لهذا تماماً، فإن ما نحتاجه هو بناء النظام الذي يمتاز بقدرته على امتحان الأيديولوجيات وفلترتها بشكل موضوعي. إنه ليس الانغلاق وراء باب مقفول، ولا فتح الباب على مصراعيه، بل وضع حاجب له.

وعن الحرية الليبرالية، أي المتحررة مطلقاً من كل عقال، فإنها لا تنجع. لمّا كان الإنسان كائناً يملك شرّاً وخيراً في نفس الوقت، فإن تحرير الإنسان مطلقاً يحرر شرّه أيضاً. نتحفز هنا لسؤال نجيب عليه لاحقاً: هل هناك من طريقة تقيد شر الإنسان، وتحرر خيره فقط؟.

 تحفز الليبرالية انتهاء السياسة بأشكال لاسياسية تعتمد على الصرعة والتطرف الفرداني والأقلوية (كالحراكات الجندرية والتيارات الإثنية وأخواتها). الصرعة، أي المواضيع المسوّق لها عالمياً مهما كانت بعيدة عن سياقنا المحلي، والتطرف الفرداني أي الذي ينتهي بالتوحد وتجاهل اجتماعية الإنسان، والأقلوية أي تغلغل سياسات الهوية بشكل مَرَضي يبحث عن صغرى الهويات وتقاطعاتها لتحفيز وعيها بنفسها وتقليب حساسيات وصدمات تاريخية منسية أو غير موجودة أحياناً.

وترتبط الليبرالية أعلاه مع النزعة الفردانية، أي تفضيل الحرية السلوكية للفرد فوق حرية الجماعة وتثمين الاكتفاء الذاتي الفردي. كأي أيديولوجيا عادية، تحمل الفردانية جانباً إيجابياً، لكن أدت التفسيرات المتطرفة لها لهيمنة الجانب السلبي، حيث تُتفهُ القضايا الجماعية، ويُطالب كائن اجتماعي كالإنسان بالتوحد، بل ويُقدّر على ذلك. في عصر فرداني جداً، تغدو بعض الواجبات العادية للفرد اتجاه الجماعة (الابن اتجاه الأهل، المواطن اتجاه المجتمع المدني والأهلي، الثائر اتجاه زملائه الثوار) تفضّلاً، بل ويحتفل به الفرد كأنه انجاز عظيم ومفصلي. ومن المَرَضي مؤخراً ظهور شريحة من الفردانيين، ممن يروجون لتفضّلهم ويحتفون بإنجازات اجتماعية وهمية (أقل من عادية، بل ومضرّة) أمام الملأ طالبين التصفيق. الفردانية المتطرفة تودي حتماً لتعارض وتناقض نفسي، وما هي إلا مثبط للتعاون وأداة للتذمر والتمسكن وتبرير واهم أمام الذات للتقاعس عن الإصلاح على مستوى اجتماعي موسع.

وعلى صعيد نفسي أكثر، يتشكل في هذه المجتمعات غير الجمهورية نماذج قيادية وقدوات معينة، تحابي التطرف أو التغييب وعادة ما تكون مثُلاً عليا عمياء أيديولوجياً ولا تنقد نفسها، اعتنقها صاحبها تحت ضغط العاطفة دون تعقل، واجتزأ منها الظاهر دون تمحيص الباطن، ووصلته بحكم التسويق والتعريض لا بحكم البحث الطوعي الحيادي. لا أخجل من سرد قائمة القدوات التي أسمع عنها: شجاعة خالد بن الوليد، وتحرر سيمون دو بوفوار، وعقلانية ريتشارد دوكينز، وروحانية الإمام الغزالي، وقوة أردوغان، وجسد كيم كارداشيان.. الخ.

تغدو الفتاة عشبة تعيش في خيالها وقراءاتها المحدودة، وإن قررت النشاط تغدو نسوية مزعجة لا ترى أبعد من جندرها المتخيل. يغدو الشاب علقة تقتات على جاهة افتراضية  وإنجازات واهمة، وإن نشط، يغدو جهادياً أو مطبّلاً أعمى (أو علمانياً مزعجاً ومراهقاً إلحادياً إن أردت). ما تشترك عليه جميع هذه المثل هي رفضها للمتوازن والعملي الملتزم. التوازن بين العقل والعاطفة، العلمانية والدين، البراءة والخباثة، القسوة واللطف..الخ. من الصعب أن يكون النموذج القيادي السائد هو أبو الحزم بن جهور، وبالكاد يعرف به أحد. سيمون دو بوفوار وسارتر وحتى دوكينز مراجع أخلاقية اليوم أقرب من كانط وسيسرو. في بيئة تثمّن قصص الصدفة الناجحة بدلاً من وقائع الخطة المحكمة، والزخم العاطفي في اللحظات الحرجة بدلاً من التعقل والتثبت في أيام الخضات، تغدو القدوة وجهاً صنماً لا معنى له سوى مكاناً يملأ فراغاً ذهنياً يجب ملؤه، يغدو صورة كرتونية يرسمها الفرد بنفسه لتكون مجرد إسقاط شخصي لعازاته العاطفية. لا درس ليستفيد منه، ولا وجود حقيقي لتلكم الأشخاص القدوة، و عادة وهم ذاتي من حكمة متخيلة بقدرة الفرد لوحده على تغيير قدرٍ جماعي.

في هذه البيئات، حيث الفردانية مقدّرة، والصراخ يستجلب انتباه السوق، والنماذج والمثل القيادية مزاحة نحو شكل سيء ومقفول، والمساحات النقدية مغلقة، و”حرية” التنطق مفتوحة (ولا أقول حرية الرأي والتعبير، فالرأي ينبع عن تعقل، والتنطق مجرد صوت)، يقع أمر بالغ السوء، إذ يتم تثقيل أصوات الوجوه الأكثر تطرفاً وصراخا. وتثقيل الرأي أقصد به أن هذا الشخص يعطى ثقلاً أكبر من الشخص والتابع العادي، ثقلٌ يكافئ أحياناً القاعدة الشعبية كلها، وهكذا يمكن اختزال قاعدة شعبية كاملة بوجهٍ واحد. التابع المغمور لن يسمع صوته مهما كان رأيه متعقلاً ومحسوباً، والوجه الصنم سيأخذ كل الضوء مهما كان صوته ضجيجاً وغير مفهوماً.

_______________________

النظام الجمهوري – كعقلية

بداية، أود نفي صورة ساذجة عن مقصدي بكلمة “جمهورية”. قد يخيل للبعض أن معنى كلمة جمهورية هو “تلك الحكومات التي يحكمها رئيس دولة بثياب مدنية، لا ملك، ولا كاهن/شيخ”. أتمنى من القارئ نسيان هذه الفكرة تماماً، والتركيز مع حجج هذه المقالة بدءاً من الصفر ودون أنماط مسبقة. الجمهورية التي نعنيها في هذه المقالة لا علاقة لها بالـ”جمهورية” الساذجة التي تنصلت منها للتو.

أود تقديم الجمهوروية على أنها عقلية قبل كونها اتجاهاً سياسياً. تعتمد هذه العقلية على أداتان فكريتان هما “التجريد” و”الضوابط والموازنات Checks & Balances”. التجريد أقصد به تحليل الأشياء المركبة للتعرف على مكوناتها الصافية بشكل منفصل، ثم العمل على إدراك وظائفها فرادى . كما في الكيمياء، يُحلَلُ(يُجرَد) ثاني أوكسيد الكربون إلى أوكسجين وكربون، ويتصف الأوكسجين بقابليته للاحتراق، بينما يتصف الكربون بتخزين الحرارة. عندما يجتمع هذان العنصران معاً لتشكيل الماء، يتصف الماء بصفات مختلفة عن الكربون لوحده، والأوكسجين لوحده. احتاجت البشرية بضعة آلاف من السنين لاكتشاف الموضوع وفهمه بهذا الشكل. نعطي مثالاً سياسياً أكثر، لنأخذ فكرة “الحكومة”. قامت الجمهورية الرومانية بتجريد فكرة الحكومة إلى ثلاثة بنى: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، وفصلت بين السلطات الثلاث (أي باتت كل سلطة تعمل بتنسيق متفق عليه، لكن دون إدلاء من سلطة أخرى).

أما الضوابط والتوازنات، فهي مبدأ عملي قد يكون الأهم، يقوم على منع أي بنية سياسية أو اجتماعية من النمو دون ضابط أو مانع، حيث يعمل “الضابط” على اختبار صحية تغيرها ونموها وتذكيرها بحدودها الطبيعية دورياً. هذا الضبط والامتحان يمنع أي بنية من أن تملك ثقلاً فوق قيمتها ويقطع عليها الطريق في حال سعت للكبر فوق ما تستحق، لذلك دعيت “توازنات” أيضاً. أعود مرة أخرى لمثالي من الجمهورية الرومانية، حيث توازن السلطات الثلاث بعضها، توازن السلطة التشريعية (كالبرلمان) السلطة التنفيذية (كالرئيس)، وتوازن السلطة القضائية (كالجهاز العدلي والمحكمة الدستورية) السلطة التشريعية. فإن أراد رئيس ما التسلط يوماً، وجد برلماناً قوياً ليصده. وهكذا دواليك. يتعقد جهاز الضوابط والتوازنات كلما تعمقنا أكثر في السياسة والمجتمع.

القدرة على تجريد المشاهدات الاجتماعية والسياسية أساسية لأي جمهوري. الوعي بوجود بنى منفصلة مجردة صرفة كالفرد، والجماعة، والمجتمع، هي الخطوة الأولى للتعامل مع الواقع. تأتي الخطوة التالية عند بناء نظام الضوابط والتوازنات. على المجتمع أن يقطع الطريق على تطرف الفرد، وعلى الفرد أن يقطع الطريق على تطرف المجتمع.. الخ.

يغدو العالم للجمهوري كمجموعة من المجردات التي تحتاج ما يوازنها بشكل عملي وواقعي. أي سلوك اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو فردي سيتم التفكير به والتخطيط له وبناءه كنظام متماسك يخضع لضوابط وتوازنات، حيث يحرص نظام كهذا على منع أي طغوة تعسفية لأي أيديولوجيا أو حركة كانت—مهما بدت معسولة الكلام— من الهيمنة الطاغية. تباعاً، الثورة للجمهوري، مثلها مثل أي بنية، هي نظام يوازن نفسه ولا يسمح بالانهيار نحو الطغيان أو التعسف أو قلة الحيل أو البعد عن الهدف. كل أيديولوجيا وفكرة تواجه ذات التدقيق والتمحيص والتحدي الذاتي.

النظام الجمهوري هذا أعقد من تبسيطات الوعود الديمقراطية أو الليبرالية. على الجمهوري الحقيقي التحلي بملكة فكرية ونقدية قوية تجعله يستنبئ السيناريوهات التي تخل بنظام الامتحانات والضوابط والتوازنات ذاك. يتفاعل الجمهوري مع الحاضر بالمحافظة على الضوابط والتوازنات. ويتفاعل مع المستقبل بجبل الخطوط العريضة للمستقبل المطلوب، بواقعية وبطء إن احتاج الأمر، ودون أن يظلم إرادة الأجيال القادمة ويقيدهم برجعية الموتى. ويتفاعل مع الماضي باستغلال قصص مضت—معينة بذاتها إن احتاج الأمر—لصالح أجندة الحاضر والمستقبل. يبني الجمهوري كلشيء، ماضيه، حاضره، ومستقبله. هكذا يفسر “إمساك زمام القدر” بيده.

كان هذا عن العقلية الجمهورية، لننتقل إلى الشكل الفعلي السياسي لها.

_______________________

النظام الجمهوري – كنظام

تقوم السياسة الجمهورية عملياً على ثلاثة أعمدة: الفضائل المدنية، المجتمع المدني، والحكومة المختلطة. كما تتصف أيضاً بـ “الحرية الجمهورية” والتي تعاكس “الحرية الليبرالية” على الطيف التحرري.

الفضائل المدنية هي مجموعة من السلوكيات المحددة والحميدة المعمول بها في مجتمع ما. الفضائل المدنية معرّفة، تتضمن الصدقة والعمل الخيري ودعم المجتمع المحلي اقتصاديا والتبادلية، تدريب القوة الجسدية وبناء المهارة العسكرية، الولاء والصدق، الالتزام بالعهود، الرفقة الحسنة، البراعة العملية (كإنجاح المشاريع والخطط والتجارة)، معرفة قدر النفس، اتزان الرأي والطبع، والتواضع المعرفي. وتحت هذه اليافطة، يقع مفهوم الأخلاق، والمرتبط تاريخياً بالجمهوروية أشد ارتباط، فلا يمكن فصل كبار الأخلاقيين ككانط أو ميكافيلي أو سيسيرو عن نزعتهم الجمهورية. والأخلاق الجمهورية كما تحدث عنها هؤلاء تملك نزعة كونية مطلقية صريحة، أي يؤمنون بوجود أخلاق خالدة وثابتة تنطبق على الجميع ولا تتغير عبر الزمان والمكان. بالنسبة لكانط فإن النية الصالحة للإنسان واجب أخلاقي مطلق، والإنسانية غاية لا وسيلة، وبالنسبة لميكافيللي تحقيق الجمهورية—بأي وسيلة كانت، ومن هنا سرت الأسطورة أن ميكافيللي قال “الغاية تبرر الوسيلة”—هي غاية، وبالنسبة لسيسرو فهو في موقف وسط بين كانط وميكافيللي مع تشديد على فضائل رومانية كلاسيكية كالمذكورة أعلاه، فالرفاه الاجتماعي والإنساني طويل الأمد هو غاية. يتفق الجميع على خطوط عريضة ومعايير متماسكة هي الأساس في فلسفة الأخلاق المطلقية هذه، أمور بديهية مثل “لا تقتل بدون سبب”، “لا تغش”، “لا تكذب دون داعٍ”، “ساهم ما استطعت”، “عامل الآخرين كما تريد أن تعامل نفسك”. يرتبط هذا النوع من الأخلاق بـ”التجريد”، إذ عادة ما يجرد الجمهوريون “الإنسانية” كوحدة بذاتها ولها حقوق يجب رعايتها. بعبع الأخلاق المطلقية حاضر بشدة في الأوساط الليبرالية—الميالين للنسبوية الأخلاقية هذه الأيام، مستخدمين عادة حجج رجل قش.

ليس هذا وحسب، بل تعتبر هذه السلوكيات والأخلاقيات الحميدة رأسمال بالنسبة لصاحبها في الجمهورية. ليس المال وحده هو ما يُقيَّم المرء عليه، بل يقع تحت طائلة الفضائل المدينة أيضاً ما يسمى “الهيبة”، أو “الكرامة/الجلال”. يمكن صرف الرصيد الأخلاقي للمرء لشراء هيبة اجتماعية، فتكون عُملَة المرء أخلاقه، وكرامته هي سلوكه الحسن. هذا الخط هو ما ألهم جون ديوي، ومن بعده عالم الاجتماع المعاصر بيير بورديو لاصطلاح “الرأسمال الاجتماعي”. تلك المجتمعات التي تملك رأسمال اجتماعي أعلى، تكون أقوى، متآصرة ومتماسكة أكثر، وأفرادها يعيشون برفاه وثراء أعلى.

أما العماد الثاني، فهو المجتمع المدني، وهو مساحة مفتوحة للجميع لمناقشة الشؤون المهمة في سبيل اقتراح حلول لها (أو على الأقل توضيح المشكلة). هذا يمنع من تراكم المشاكل ويسمح لمواجتها مباشرة دون انفجار مستقبلي ما. تُؤطَر عادة هذه المساحات ضمن نوادٍ سجالية تشبه الأحزاب، أو مؤسسات غير حكومية ناشطة اجتماعياً وسياسياً. يعمل المجتمع المدني على تدريب المهارات وبناء القيادات ودعم المشاريع التنموية وسبر الاحتياجات والمشاكل وتقديم التوصيات والحلول لمسائل آنية حاضرة، كما يقدم منصة للآراء المكلومة، ويعمل على تسوية أقنية التواصل لتكون واصلة للجميع بنفس القدر. إنه يعرض مسائل جدية للناس العاديين طالباً تفاعلهم، فيغدو للإنسان العادي صوت، وتغدو القضايا أقرب للجد والواقع وأمنع من التتفيه والتسخيف. لدي سابقاً مقالة خاصة عن حالة المجتمع المدني في سوريا لمن يريد التفصيل.

في الوضع المثالي، يحل المجتمع المدني مشكلة تثقيل الرأي لأصحاب الجاهة والمنصب والشهرة التي تنسف القاعدة الشعبية تماماً، فالمجتمع المدني يواجه العوائق الظاهرة والضمنية التي قد تمنع الناس عن إيصال خوالجهم بشكل طبيعي. يتضمن دور المجتمع المدني مساواة التعرض الإعلامي للعامي العادي مع ذي المنصب، فلا يغلب أحد الآخر إلا بالحجة وصحة الرأي. كما يساهم المجتمع المدني في إزاحة النماذج القيادية والقدوات لحالة “جمهورية” أكثر (أي تعكس الفضيلة والاتزان والواقعية وقيم المواطنة). نعم، المواطنة، فهي في العُرف الجمهوري: مقدار المساهمة للمجتمع المدني والأهلي والتحلي بالفضائل المدنية. وارتبطت الجمهورية—من خلال توظيف المجتمع المدني—ببناء الهوية الوطنية القوية العابرة للانتماءات الصغرى. مرة أخرى، يعوم “التجريد” على السطح، حيث يساعد المجتمع المدني الجمهوري على اختيار مجال الهوية العابرة ومعيارها، هل هي الإثنية؟ هل هي الدينية؟ الوطنية؟ هل هي ابتداع لم نسمه بعد؟.. الخ.

أخيراً، يتعامل الجمهوريون مع الحكومة على أنها كيان يجب موازنته دوماً. لا يوجد سبب منطقي يفرض نوعاً سياسياً وحيداً على الحكومة بما في ذلك “الديمقراطية”. اتركني من عسل الكلام، لماذا الديمقراطية مرغوبة لوحدها؟ فهي مليئة بالسلبيات، ويمكن أن تنهار بأية لحظة نحو الفوضى (كما تنهار الملكية نحو الدكتاتورية، والأرستقراطية نحو الأوليغارشية). كجزء من نظام الضوابط والتوازنات، يطالب الجمهوريون بحكومة مختلطة، أي لا يحكمها الشعب بالكامل، بل هناك ما يوازن الشعب (بالأحرى، الحالة السلبية منه: الغوغاء)، وهم نخبة سياسية مدربة جيداً على المسايسة، والتي بدورها تتوازن مع سلطة تنفيذية متركزة نسبياً في كيان/شخص واحد (الرئيس في عصرنا، لكن قد يكون مجلساً تنفيذياً نظرياً). هذا الترتيب يقسم البرلمان إلى مجلس أدنى (منتخب شعبياً) ومجلس أعلى (نخب برلمانية تملك حق نقض) ويعطي سلطات معتبرة لمكتب الرئاسة (أيضاً يملك حق نقض)، والجميع منتخب والجميع يوازن الجميع. كل هذه القيود، تضمن فعلياً الحرية، وهذا ما يأتي بنا إلى فقرتنا التالية، الحرية الجمهورية.

ما ندعو إليه هو حرية جمهورية، أي حرية لها ما يوازنها، حرية مقيدة بخطوط عريضة وفضائل طوعية متفق عليها تحافظ على مجال السياسة ضمن السياسة دون أن تنسكب على عصاب الهويات (وتودي لمصائب عديدة تباعاً، أحدها فقط هو تجييش وعي الأكثرية ودفعها نحو الاغتراب والاستقطاب والتطرف والسلطوية). الحرية الجمهورية هي نظام يقييد الجزء السيء من الحرية، حرية الشر. الحرية الجمهورية هي حرية مناطة اجتماعياً، ونعني ليست فقط التي يجيزها المجتمع، بل يحميها أيضاً، وهي أفضل للفرد على المدى الطويل من حرية مرفوضة اجتماعياً، وهذه الإناطة والإشراط ليست معزة أو محبة خاصة للمجتمع، بقدر ما هي موازنة مع الفردانية. لم يحصل بعد أن خيض بالنقاش العام الذي يؤدي لتحديد هذه الحرية الفردية المناطة اجتماعياً، بل كنا لفترة اقتربت من العقد الآن مشتتين باكتشاف حرياتنا الفردية الصرفة. الحرية في الجمهورية هي حرية من التعسف والنزوة، أي تعسف وأي نزوة، وهي حرية لتحقيق الذات والمشروع الإنساني، حرية تطالبك برفع الرأس وتحقيق الطموح. لا تخجل الجمهورية من رفض العلقة والعشبة والعالة، أو نفي أزلام الطاغية أو إعدام الدكتاتور. في الجمهورية، “المواطنة” هي استحقاق، والكرامة هي ثقافة، ورأس المال هو أخلاق وعمل. لتكون حراً مطلقاً يجب أن تستحق حريتك، وتفي بشرط اتزانك دون الحاجة لما يمنعك من التعسف.

رواد الديمقراطية في العصر الحديث كانوا جميعاً جمهوريين قبل كلشيء، لهذا دافعوا عن مبادئ الديمقراطية بشدة (أي إدماج الشعب بالقرار السياسي)، فقد كانوا يعرفون بحضور الشرط اللازم والأرضية الثابتة والمناسبة لهذا المشروع الكبير، ما قصدوه حقاً هو اللحظة التي يبلغها الشعب من مهارة في تقرير مصيره السياسي بشكل صحي دون الحاجة لتدخل ما يضبطه أو يوازنه.. شعب يوازن ذاته ومتزن بذاته، شعب بذاته.

_______________________

المبادرة والابتكارية والابداعية في الجمهورية

تتصف الابتكارات الجديدة بأنها تفيد مبتكريها قبل غيرهم، وأحياناً جيلهم المحظوظ دون غيره من الأجيال. لنأخذ ابتكاراً أفاد البشرية جمعاء مثالاً، اللقاح. تفيد اللقاحات جميع البشر اليوم، لكن إن فكّر المرء قليلاً سيلاحظ أن أول جيل دخل عليه اللقاح كان أكبر المستفيدين، إذ هو، دون غيره من كل أجيال البشرية، سيحظى باستمرارية جينية شبه أبدية، وهو تفوق لم ولن يحظى به أي جيل بشري آخر. يمكن رسم أمثلة مشابهة لأي ابتكار، الكهرباء، السيارات، السلاح.. الخ. حيث عامل السبق الزمني كان كافياً لتحقيق تفوقٍ حاسم ومستدام لتلك المجموعة المبتكرِة على غيرها حتى بعد تعميمه.

يذهب ذات الشيء على الابتكارات التجريدية والفكرية أيضاً. أول جماعة ابتكرت مفهوم الدولة تفوقت بشكل مستدام وعابر للأجيال على الجماعات التي لم تملك دولة. ولا تزال المجتمعات التي ابتكرت الرأسمالية والوطنية وغيرها من المفاهيم سباقة لغيرها في جميع الميادين تقريباً.

والعكس بالعكس يصح تماماً! في المجتمعات التي تتأخر بالابتكار، قد يرى آثار هذا التقصير أجيالٌ بعينها دون أخرى. في الحقيقة، كلما راكمت الأجيال أخطاءاً لم تحلها، كلما ستتأجل هذه الأخطاء نحو الجيل التالي لتنفجر بالنهاية على وجه جيل واحدٍ دون غيره وتظلمه بشدة محملة إياه وزر أجداده.

الابتكار السياسي قيمة جمهورية بارزة تنبع من قيمة أعمق هي “المبادرة“. في الوضع المثالي للجمهورية، أنت مشجع للترجل والتقدم لعرض أفكارك وبلورتها في الفضاء العام دون توصيم أو تعيير، الفضاء العام هنا هو مساحة حيادية لتحكيم أفكارك دون أن يكوّن أي حكم قيمة على شخصك، وفي هذا الوضع المثالي، يتقدم جميع أفراد الجمهورية لعرض كل الأفكار الممكن استخلاصها الموجودة في الحوض الاجتماعي. الابتكار هذا هو كمنجم الذهب بالنسبة للجمهورية.

ابتكار أمر غير موجود بعد أمر صعب، إذ أن الإنسان يجنح بشدة للمألوف والمعروف. أشاهد هذا في تعاملنا كسوريين مع الوضع السوري. نرى أي ظاهرة سياسية، حكومية كانت أو حتى على مستوى العمل اليومي (سياسات الموارد البشرية مثالاً)، كما لو أنها دين نزل به نبي ومات دون أن يسمح لنا بتغييره، أو فيزياء مكتوبة في كتاب كمجموعة من القوانين المتحجرة الموجودة في الطبيعة والخارجة عن إرادتنا، وليس لنا قوة عليها سوى تطبيق المعادلة بالورقة والقلم. الظاهرة هذه متغلغلة لدرجة مشلّة ومؤذية بل حتى تجذرت باللاوعي و باتت أمراً مأخوذاً به.. وما أظن إلا ظني أن هذه الظاهرة من آثار التدجين البعثي. بيد أن السياسة ديناميكية أكثر من هذا بكثير.. يمكنك تغييرها ضمن أعراف محددة، بل ويمكن إضافة سياسات جديدة كلياً!

سأضرب مقاربة عن الابتكار والمبادرة التي تشملها الرؤية الجمهورية. لنتخيل أنك ستبتبكر اختراعاً في وسائل النقل: يمكن لابتكارك أن يكون محسناً لآداء مراكب موجودة أصلاً، مثل ابتداع قطعة جديدة للمحرك، سنطلق على هذا النوع “المبادرة الناعمة”. بالمقابل، يمكن أيضاً أن يكون ابتكارك شيء جديد كلياً، وسيلة نقل أخرى لم نعرف بها من قبل ولم نملك لها إسماً سابقاً، لا هي سيارة ولا قطار ولا صاروخ، وهذا الابتكار كان متفوقاً أو مناسباً كفاية حتى غلب كل الوسائل الأخرى. ولنطلق على هذا النوع من الابتكارات بـ “المبادرة الخشنة”.

أتمنى إسقاط هذه المقاربة على السياسة. المبادرات هذه هي التي تحسّن من آداء الحكومة وتساهم بسياسات جديدة وفعالة. آمل أن يكون المرء قد ربط المبادرة الجمهوروية مع الثورة لوحده بعد استعراضنا السابق. ستلاحظ أن الثورة المنشودة هي فعلياً مبادرة جمهورية خشنة. مفهوم “الوطنية” مثلاً كان المبادرة الخشنة والرائعة للثورة الفرنسية. مفهوم الحقوق (وهي أمر مختلف عن القوانين!) كان المبادرة الخشنة للثورة الأمريكية ولربما الإنكليزية قبلها. إنها اختراعات جديدة كلياً لم يسبق لها أن وجدت ولم تملك إسماً من قبل، وارتجلها مبتكروها في لحظتها لكي تناسب سياقاتهم ولكي يحصدوا ثرواتها قبل غيرهم فيحققوا مكاسب ونصراً ما.

ظني ورؤيتي وتحليلي أننا (كربيع عربي، سوريا تحديداً) قدمنا بخجل شديد بعض المبادرات الناعمة، وأننا ضعيفون جداً بتقديم مبادرات خشنة—فعلياً لم نقدم أي واحدة. لسنا قاصرين عن تقديم مبادرات خشنة أبداً، للبعض، مجرد التوعية بحضور هذه المشكلة كافٍ لإيقاظهم من السبات.

كان معظم ما رأيته هو اعتزالية وانسحابية من القضايا المهمة وكأنه تسليم بقوانين الطبيعة(عكس المبادرة تماماً). يرى العلماني المعارض أنه غير معني بتقديم المساهمة للهوية السورية بسبب هيمنة الفصيل الاسلامي، فينسحب تماماً من كلشيء. يرى الإسلامي أنه غير معني بالهوية السورية لإنها هوية الأقليات والعلمانيين، فيمتنع عن المساهمة الجدية بالفكر الوطني.. ولغيرهم وغيراتهم ذات المواقف. إنه كما لو أن السوريين لا يملكون وعياً ذاتياً على قدرتهم على المبادرة والابتكار والتفكير المتفرد بشكل مستقل عن الآخرين، إنه كما لو أنهم يشترطون فراغ الفضاء العام لهم لوحدهم حتى يساهموا بشيء ما، وهذا أيضاً بظني من بقايا العبث البعثي بالعقول. إن شرب عدوك من بئر، فهذا لا يعني أن البئر والماء عدو!

السياسة قدر المرء وجماعته، ولا بد أن تستوعب عنصر المبادرة المُحكّمة لضمان التقدم والرخاء والتغيير الطبيعي والسلمي والمحافظة على المجتمع. فعلياً، ما نقول عنه “الجذرية الثورية” هو ليس إلا مبادرة سياسية خشنة.. فتشجع للمبادرة. #Sapere_aude

نظرية المبادرة لوحدها تحتاج نقاشات موسعة آمل أن “نبادر” للبدء بها ولا مكان لها في هذه المقالة سوى ذكرها بهذا الشكل.

_______________________

الرأسمال الاجتماعي في الجمهورية

يترتب طبيعياً من أي بيئة تثمن الفضائل المدنية، الاتزان ورجاحة العقل، النشاط المدني والتبادلية، والابتكار والمبادرة، أن ترى بالإنسان كنزاً مكنوناً. الرأسمال الإنساني هو التآصر الاجتماعي ومقدار الترابط الطوعي للأفراد بين بعضهم ومدى المعارف الموجودة والقابلة للاستخلاص في الحوض الاجتماعي هذا. الرأسمال الاجتماعي يمكن استثماره، بناؤه، تربيته، تهذيبه، تأطيره.. الخ. إنه كرأس المال المادّي.

الرأسمال الإنساني العالي أحد خواص المجتمع الجمهوري، حيث جميع المؤسسات والتكتلات تعمل بشكل واعٍ وموجه للمحافظة على هذا المورد.

أود إسقاط ما تبقى من هذه الفقرة على حالتين سوريتين من مشاهداتي الشخصية:

  • الزواج والارتباط: في الحقبة المعاصر، أخذ السوريون الأسوء من أمرين، أخلاق الطبقة المتوسطة التي تؤخر الزواج، وأخلاق الدين الإسلامي التي تدفع نحو تعفف العزّاب. كان محتماً ضمن هذه البيئة أن يجد الفرد نفسه مرتبكاً وفي بيئة تعادي طبيعته وممارساته العادية، هذا أدى إلى تدهور اجتماعي بالغ ازداد أثره خلال الحرب، وحفّز الكثير من الميول العنيفة والعصابية والسلبية وكره المجتمع. وحتى عند الزواج، ازدادت معدلات الطلاق والهجران بشكل مؤلم. هذا المظهر غير العملي كان ليعتبر مشكلة كبرى في مجتمع جمهوري، حيث وحدتان اجتماعيتان أساسيتان كالعائلة والفرد يشهدان انهياراً واضحاً. إدارة الموضوع ستكون ضمن المشروع الجمهوري.
  • الهوية: على الهوية الجامعة أن تكون نابعة بشكل عضوي من المجتمع، وأن تكون عامة كفاية كي تشمل أوسع عينة ممكنة. وعليها أن تملك وجوداً حقيقياً مقنعاً. أود أن أروي قصة لمقاربة هذه النقطة، وسأستخدم بطل أفلام الكرتون “باتمان” لمساعدتي. القارئون المتعمقون لقصص “باتمان” يعرفون “باتمانهم” جيداً، ويمكن لهم توقع حبكة قصصه أو حتى كتابة قصص جديدة عنه. الأهم من ذلك، إن أتيت بقصص عن بطل آخر، قل “سوبرمان”، وغيرت الإسم لباتمان وأعطيته لهم لقرائته، سيتمكن هؤلاء من استشعار الشذوذ الغريب عن الحبكة “الباتمانية” وسيرفضون القصة ويعتبرونها منحولة. هذا هو المقصود بالنمط الأولي الذي تكلم عنه كارل يونغ. سوبرمان وباتمان أنماط أولية مستقلة، وشعر الباتمانيون بعدم توافق بين قصة باتمان المنحولة والنمط الأولي الحقيقي لباتمان.

ذات الشيء يذهب للهوية الوطنية أو الأهلية، على الهوية أن تكون على توافق مع النمط الأولي واللاوعي الجمعي للمجتمع. فكّر بمسلسل باب الحارة، والذي يُشعِر السوريين بغرابة واستهجان، ومعظهم يرفضه بشدة. إنه على تنافر مع الأنماط الأولية للمجتمع السوري ولاوعيه الجمعي.

الهوية الفاشلة أو الضعيفة ستودي بالاجتماع البشري إلى الخراب، ولهذا نرى أن العمل على بناء هوية قوية هو من المآثر الجمهورية المهمة.

_______________________

خاتمة

الديمقراطية المستندة والمشترطة على أساس جمهوري لن تظهر بمظهر مزعج يدفع للكفر بها كالذي ذكرته في بداية هذه المقالة. حقاً، الجمهوروية ستكون مفتاحاً أساسياً في حل العديد من المشاكل. تحدثنا عن بعض هذه المشاكل وحلولها المقترحة، وقمت بضغط الكثير من الأفكار في مساحة ضيقة: أزمة اليوم، الحرية الجمهورية، النقد الجمهوري لليبرالية، العقلية الجمهورية، المجتمع المدني، النظام الجمهوري كسياسة، الرأسمال الاجتماعي والبشري، الهوية والبنى الأولية، باتمان.. وغيرها.

كما قلنا، ننشد مفهوماً جذرياً، سباقاً على الأيديولوجيات السائدة، عاماً كفاية ليحتويها، ومحدداً كفاية ليولد أدوات محسوسة. للجمهوروية أدوات واقعية وعملية وتخاطب مشاكل معينة وثابتة. إنها ليست بتخبط اليسار أو اليمين، بل حقاً، هي أحوى وأسبق. كانت العينة المستهدفة لليسار سابقاً هي الطبقة العاملة، فيما هي اليوم مزيج غريب من دعاة ما بعد الحداثة ومهووسي الهويات الأقلوية. الجمهوروية ليست هكذا، فعينتها المستهدفة ثابتة. الجمهوروي قد يكون يسارياً، أو يمينياً، أو وسطاً، أو يتنقل بينها، لكنه يبقى جمهورياً مهما حصل، وهذا ضمان نجاح مشروعه الوطني أو الثوري وعدم فشله. الجمهوري لا يسأل نفسه “ماذا عن اليوم بعد انتصار الثورة؟”، فهو يعرف الإجابة تماماً.

في نقد المجتمع المدني السوري

Untitled-1

على عكس المفاهيم الحداثية في المجتمع والسياسة، يبدو أن تعريف المجتمع المدني أسهل من غيره، إنه مجموعة الجهات الغير حكومية المهتمة في شؤون المجتمع والفرد بكل ما تحملها من تفاعلات وتأثيرات. ومن الممكن القول أن سوريا لم تعرف مجتمعاً مدنياً قبل ثورة آذار 2011، على الأقل ليس على مستوىً عموميٍ شعبي، بل كانت الحكومة هي الطاغية على كلشيء. لكن إبان الثورة، كان على الحكومة السورية مواجهة انفجار فقاعة هيمنتها المتعاظمة، فبدأ السوريون يولدون لأنفسهم، بعيداً عن الحكومة، أطراً تنظيمية ومؤسساتية عضوية بدأت غالباً على المستوى الصغير، مستوى الحي والأصدقاء والمعارف والطوعية والمبادرة و”التشارك بالتمويل الذاتي”. استمر هذا مع تقدم الحرب، حتى وصولنا لعام 2013 تقريباً، حينما تحول المجتمع المدني من الطوعية الذاتية والمحلية نحو “الاحتراف” و”المهنية” و”النضوج”، فانتقل إلى مستوى “المنظمات” والتعامل مع المتبرعين، أو “الدونرز”، الدوليين. هكذا ولد المجتمع المدني، إنه وليد الثورة السورية، وعليه أن يكون ممتناً للثورة، وفياً لها، وللثوار الذين قضى كثيرٌ منهم كشهداء، والذين ظن معظمهم أن تفعيل المجتمع المدني السوري (م م س) يأتي كجزء من الأجندة الثورية وكخدمة للثورة ولمستقبل سوريا.

بيد أن التحول الذي حصل سنة 2013 نحو “المهنية”، لم يكن بريئاً بأي شكلٍ من الأشكال.. بل كان صدامياً ونقلة نوعية في سلوك المجتمع المدني.. وبدى كما لو أن الله استبدل قوماً بغيرهم على كل أجنحة الثورة.

هذا المقال أتى بالمقام الأول كنقد ذاتي داخلي، سوري-سوري، ومن قبل عامل في المجتمع المدني على مدى عدة سنين، ويهدف قبل كلشيء لتحسين الأداء واستباق النقد من الهدّامين وتحفيزه لدى البنّائين، وبدء نقاش جدّي حول المجتمع المدني. وكان طول المقال نتاجاً لرغبتي بأن يكون نموذجاً قاعدياً ولربما مرجعاً في مشاكل المجتمع المدني السوري.

واستبدل قوماً غيرهم

يتحدث القرآن عن استبدال الله قوماً بغيرهم، وهو ما قد يُعنى به بالاصطلاحات المعاصرة التقنية بالتغيير الديمغرافي أو الازاحة الديمغرافية. يستطيع من نجى من الرعيل الأول للثورة السورية أن يشعر أن الكوادر الثورية تعرضت لإزاحة ديمغرافية، ومن هم في الثورة اليوم، بداية 2020، يختلفون عمن قدح الثورة في 2011. الرعيل الأول من الثوار استشهد واعتقل واختفى وانهزم. ما بقي منهم شتات وفتات. يكرر معظم هؤلاء مقولتهم “ما هذا الهراء الذي نراه؟.. لم نثر من أجل هذا”

واليوم، توزع الكثير من شتات الرعيل الأول بين المدينة الملعونة غازي عينتاب، واسطنبول، وجزء لا بأس به يعمل مع “المنظمات”. في اسطنبول آراهم وأسمعهم وأسمع عنهم كل يوم. يملك هؤلاء أكثر القصص سوداوية وأكثر الصدمات عظمة وأكبر خيبات الأمل التي قد يشهدها ثوريٌ بقي حياً. وتتفاقم ردات فعل هؤلاء الاكتئابية في ما قد يدُعى “اضطراب ما بعد الورشة”، أي بعد حضورهم ورشات تنظمها منظمات مجتمع مدني كبرى ودولية، حيث يبدو أن قلة استيعاب المنظمين عن السياق السوري واستشراقهم المفرط عن الشعب السوري وتجاهلهم للهموم المباشرة والأساسية للناس بات أمراً مسبباً لاضطراب يُقارن مع، بل يعزز من اضطراب ما بعد الصدمة الذي سببته الحرب. الكثير يصل معه الأمر حداً خطيراً من الأفكار الانتحارية ولوم الذات وتأنيب الضمير للمشاركة بهذه الورشات، حتى أنه يمكن إقامة الفرضية أن القرب من “المجتمع المدني” الجديد، م م س، بات سبباً للاكتئاب والخيبة.

يشعر الرعيل الأول من الثورة كما لو أن أجندته خاطئة وتستحق الرفض، بل وانجلى لهم أن هناك “آخرون” كثراً يتربصون بهم وينتظرون موتهم ولحظة الانقضاض عليهم وفنائهم وفناء ثورتهم ليخرج “الآخرون” بما أتوا به من أجندات غريبة، أجنبية، عدوانية، فئوية، استشراقية، كانت لترفضها تلك الثورة الأولى رفضاً قاطعاً.. كان هناك تربصٌ برعيل الثورة الأول كما تربص الشيطان الشامت بمسيح مجلود على وشك أن يصلب، أم لنقل شياطيناً شامتةً لا شيطاناً واحداً.. وهذا هو الدور الذي أخذه المجتمع المدني الذي تكون بعد 2013، وصولاً إلى الانحطاط الذي نشهده في 2020.. لقد كان م م س أحد تلك الشياطين.

قبل شيطنة المجتمع المدني.. تبريء لبعض الملائكة:

وجب أن أنوه أن المجتمع المدني لا يمكن أن يكون كله “شيطاناً” بالمطلق. ومن الواجب الأخلاقي تحديد الهدف الأساسي لهجومي في هذه المقالة. المجتمع المدني هو كيانٌ لعب دوراً إيجابياً معظم وجوده في التاريخ، بما فيه تاريخ الثورات، بدءاً من الثورة الفرنسية التي ولّدت ثائريها من “نوادٍ” سياسية إصلاحية والتي كانت بمثابة نمط قديم لمجتمع مدني، مروراً بثورة كومونة باريس عام 1871 حيث لو كان المرء ليتجول في شوارع باريس آنذاك لرأى مجموعات تنتشر أين ما أدار المرء نظره، مجموعات مكونة من أناس عاديين من مختلف مناحي الحياة يتناقشون فيما بينهم عن أفضل الطرق لإدارة الثورة والمجتمع اللاحق بعدها. وغيرها من الأمثلة. لكن ما يختلف تاريخياً هو أن الله لعننا بلعنة اختلاف الزمن. نحن الآن، تاريخياً، بمرحلة تميزها سيولة ما بعد الحداثة، حيث يضيع المعنى، وتضيع الحقائق، وتُرفض الكونيات، وغيرها من الطبائع التي تجعل من المجتمع المدني المعاصر مختلفاً عن كل ما سبقه.

74841094_2221585474808491_8647850666913431552_o

 رسم تخيلي لسجال في النادي اليعقوبي بباريس إبان الثورة الفرنسية

المجتمع المدني المعاصر مجالٌ واسع يتراوح من الإغاثة، وهذا الاخير هو أكثر قطاع حافظ على عضويته وقربه النسبي من الناس، إلى التدوين الصحفي إلى توثيق الحرب إلى التعليم إلى ما يسمى “القضايا الاجتماعية”، وهذه الأخيرة هي أكثر القطاعات شيطانية في م م س وأكثرها طعناً بالثورة السورية. ولسوء قدرنا، بات اليوم قطاع “القضايا الاجتماعية” قوياً بشكل أكبر مما يستحقه بكثير، وهيمن عليه أمثلته السيئة لا النبيلة، وهو نفسه هيمن على قطاعات أخرى قد تكون أحق وأهم وأنقى، حتى احتكر لصالحه تركيز “الدونرز” وعيّن نفسه “شرطةً” تقرر ما هو الصواب وما هو الخطأ في باقي القطاعات، وانسكب هذا على السياسة والحياة العامة واللغة، وكل ذلك مستخدِماً معايير متهافتة. وللترويج لنفسه وشرعنة تعسفه فرضَ آلية شبه بروبغاندوية و”فوقية أخلاقية ترهيبية”، حتى بات اليوم هو الواجهة التي تُعرِف م م س. أما العديد من القطاعات الأخرى، فعلى مشاكلها لكن من الصعب أن تستحق درجة “الشيطان”. ولا أقول أن كل المنظمات العاملة في “القضايا الاجتماعية” تستحق لقب الشيطان، لكن أظن أن أكثرية هذه المنظمات تستحقه.

وللعلم، لم يكن م م س بهذا القدر من السوء سابقاً. في 2011، عندما كان الشعب السوري يقولب مجتمعاً مدنياً، كانت تصوراته عن مسؤوليات هذا الكيان هي التالي:

  • المساهمة لمجتمع مزدهر يكون فيه الرأسمال الاجتماعي عالياً(حيث يعرف الرأسمال الاجتماعي—باختصار—على أنه التعاضد والتآصر والثقة والأمان بين أفراد المجتمع الواحد)، والسعي لتحقيق رضى أوسع عينة ممكنة من الأفراد عن آداء مجتمعهم ومؤسسات مجتمعهم. وينسدل تحت هذا البند أيضاً تحقيق التكافل الوجداني والسلوكي (كالعمل الإغاثي) أمام الفترة الدموية العصيبة التي يتعرض لها المجتمع السوري.
  • استثمار الرأسمال الإنساني(أي الأدمغة والطاقات والخامات والمواهب) بالمكان الصحيح والمناسب لإفادة كلي الفرد والمجتمع ولما كانت الإفادة الأولى للفرد والمجتمع هي إسقاط النظام، فهذا يعني توجيه الرأسمال الإنساني مبدأياً لقضايا الثورة والسياسة ريثما يحل السقوط.
  • تسهيل عملية تكوين الهوية الوطنية الجامعة والعابرة لكل الفئات.
  • تسهيل عملية تعريف “المواطنة”، أي الحقوق والواجبات التي يجب أن يقوم بها الفرد للمجتمع ولدولة ذات شرعية.
  • بناء تحالف متماسك بين الفرد والمجتمع.
  • زرع القيم الديمقراطية بشكل مستدام في المجتمع.
  • مراقبة وتقييم المؤسسات الاجتماعية والسياسية والمدنية. وذلك بهدف تحسين الآداء، الحد من الفساد، وتمكين الشفافية.
  • فتح وتسهيل أقنية النقاش بين شرائح المجتمع المختلفة، وهدم الموانع المؤسساتية، بل والنفسية التي قد تمنع المرء من إيصال صوته.
  • المساهمة في تأهيل الكوادر للريادة الاجتماعية والسياسية.

وكان التصور أن الأداة الأهم التي ستستخدم لتحقيق هذه المسؤوليات هي “التواصل” والعمل الميداني، لا بالجبر والقسر، بل بالطوعية والحرية، خصوصاً وأن أجواء الثورة كانت مثالية لتحقيق هذا الشرط، بالإضافة إلى كامل الدعم من الثوار، مضفين شرعية على العمل الميداني للمجتمع المدني في صفوفهم. وفعلاً ازدهرت المبادرات الإغاثية والاجتماعية والوطنية، والأهم، الثورية، والتي لربما حظيت بتسمية خاصة وقريبة للقلب: “الحراك المدني” باعتباره الجناح السياسي الثوري لـ م م س.

في 2020، نعرف أن هذا لم يتحقق بشكل مستدام، بل في كثير من البنود حدث العكس. ولدينا الآن مشهدٌ حيث المجتمع المدني يشغر طرفاً في لجنة دستورية مكروهة لاشرعية لها من قبل الشعب.

وكما هو يريد أن يكون طرفاً ثالثاً، فأود أنا أن أحاسبه على أنه طرف مسؤول حقيقي.

الإشكال والأخطاء

م م س يعاني اليوم من أزمة هوية وتحديد للمفاهيم. بالوضع الطبيعي، يعمل المجتمع المدني على مستوى “المجتمع” كما يعرّف عنه اسمه، لا على مستوى “الجماعة” ولا على مستوى “الفئة” ولا على مستوى “الفرد”. لكن يبدو أن م م س نسي هذا. إنه م م س الفئوية والفردانية، وهو أبعد ما يكون عن محاباة المجتمع. إنه مؤلف حالياً من مجموعة من المنظمات الضعيفة التنسيق بين بعضها حيث كل منظمة مسؤولة عن مجموعة محدودة ومعينة جداً من ((فئة)) سورية ما، وتعامل المنظمات المدنية هذه الفئة على أنها دولة بذاتها منفصلة عما حولها. بهذا الشكل، لا يمكن القول عن م م س أنه سوريٌ حتى، ولا هو مشروع وطني سوري. يثبت هذا الرأي اختبارات عديدة حصلت لأداء م م س، مثل أحداث الاصطدامات الديمغرافية التي أتت بها الحرب (كالإثنية مثلاً بين الأكراد وغير الأكراد بعد العمليات التركية) حيث كان دور م م س مؤججاً لنار الشقاق، ومتعاطفاً مع السردية الأكثر شرخاً للشعب السوري بدلاً من مطفئ لنارها ورادمٍ لهاويتها.

يقول هابيرماس (1990) أن المواطنة تعرف بأنها مقدار مساهمة الأفراد وانضمامهم للنقاشات العامة. ويكون ميسر هذه النقاشات هو المجتمع المدني، مما يعني أنه صاحب دور محوري في زرع قيم المواطنة. حيث على المجتمع المدني تسهيل وصول جميع الأفراد إلى ساحة النقاشات العامة بدون تمييز، بمحافظيهم وعلمانيهم، بأكرادهم وتركمانهم وعربهم، والكد من أجل الحرص على أن تكون هذه النقاشات مثرية ومساهمة، وليست مجرد صراخ متبادل. هذا ليس ما نراه في م م س. على العكس تماماً، نحن نرى تعسيراً للتواصل بين شرائح المجتمع المختلفة، وبدلاً من أن يكون المجتمع المدني منصة للتواصل، بات منصة للنرجسية الهوياتية، وللغيبة والنميمية (“الشلي” كما اصطلح ناشطوه) وضرب السمعة وتزييف الحقائق وبعبعة الآخر والصراخ العصابي وإثارة الضباب بدلاً من إشعال النور. إنه فاقد تماماً لبوصلة المواطنة ولا يملك الحد الأدنى من الفضائل المدنية التي يتوجب عليه أن يدعو لها ويزرعها.

وطارت السمعة السيئة لـ م م س بالفساد المؤسساتي، مالياً وسياسياً ومخابراتيا، وكان أيضاً من أكثر المؤسسات بيروقراطيةً وقلة في الشفافية. المحسوبيات، الارتزاق، الانفصال عن الواقع والحاضنة، أجنبية الأجندات وغرابتها، التميِيز والتحييُز. إنه كما لو ذهب عكس مبادئه التي تأسس من أجلها تماماً. تحول م م س من “منظم اجتماعي” له كل الشرعية إلى “متحكم اجتماعي” يشحذ الشرعية شحذاً. كيانٌ كاره لحاضنته، قارف لجمهوره، بل ومحرض على كرهه والانتقاص منه. ليس هذا في أي يوم عادي، بل اليوم الذي نحتاج به بعضنا البعض أكثر من أي وقت مضى، يوم الثورة. آنذاك، كان م م س يقسمنا ويمزقنا.

العاملون في المجتمع المدني ممن ينصتون لمستفيديهم وحاضنتهم، وفي بعض الأحيان “زبائنهم”، يتعرضون لضغط كبير من قبل الأخيرين، ضغط من الأسفل-إلى-الأعلى، لعكس همومهم الحقيقية المتمثلة بالمحاسبة العادلة والتمكين الاقتصادي وغيرها.. في حين نرى أن مؤسسة المجتمع المدني تلك تميل إلى تجاهل هذه المطالب والتركيز على “ما يقوله الدونر” وأجندته مهما كانت بعيدة ولا تمثل هموم الناس المباشرة. لا يرى أهل الداخل اليوم في م م س سوى بقرة لتحلب: مصدراً للراتب والتوظيف. العديد يشعرون بالعار والاحباط وانحطاط المعنويات للعمل به. آخرون من عمّاله لا يهمهم سوى الارتزاق والمال، لا يملكون انتماءاً سورياً ولا شعوراً بالمسؤولية أو رؤية نحو تحقيق تصور الثورة السورية للمجتمع المدني.

لعل وعسى يعاني م م س مشاكل موضوعية وحقيقية. سأسعى لعدها وتصنيفها في هذه المقالة، وذلك ربما مساهمة لتجنب انفجار فقاعة مجتمع مدني اقترب موعد انفلاقها ولن ترحم الطالح الرذيل ولا الصالح النبيل.

في 2020، يمكن الحديث عن 8 لعنات أصابت المجتمع المدني، بدأت تظهر خصيصاً بعد تبدل “الطقم” وقدوم جيل ما بعد ال2013، وهي:

1. السذاجة المعرفية ورفض الواقعية:

عندما يواجه عدة خيارات، م م س يفترض وجود موارد لامنتهية، مالية ومعنوية وفكرية وفيزيائية، فدائماً يختار الخيار الأكثر طوباوية ومثالوية وكلفةً، دون أن يأخذ الواقع ضمن حساباته أبداً. إنه أعمىً بالرومانسيات الحالمة، ولا يتحمل مساحة للواقعية العادلة والمنطقية. عندما يطَالَب بالواقعية، يرد بضحالة وشخصنة رامياً شتى التهم والوصمات من قاموسه على الطرف “الواقعي”. وعندما يخسر خياره ويتبين خطأه ولاجدواه على أرض الواقع، تراه يلوم “جهل” الناس وقلة استجابتهم.. الخ. إنه بهذا الشكل أيضاً يجرد نفسه من مسؤوليته، وتباعاً: محاسبته. هكذا، هو لا يرى فوقه سلطة تدله على السلوك الصحيح، بما فيها سلطة الشعب. إنه معزول عن طموح الناس وتوقعاتهم.

وعن أسس منظمات الـ م م س—إن وجدت—فهي فلسفة مكتوبة في برج عاجي منفصل تماماً عن الناس. عادة ما يكون برجاً عاجياً في سان فرانسيسكو أو جينيف أو بروكسل. مبادئ معظمِهِم كُتبت من قبل ثلة صغيرة من المؤسسين المتأثرين بنوع معين من الأفكار، دون أن يقحموا أي أحد من مستفيديهم في صنع المبادئ أو القرارات. بهذا الشكل، لم يسمحوا لنا بتنمية رؤيتنا الخاصة المناسبة لسياقنا اتجاه مجتمعنا المدني.

ومما يملكه م م س، سذاجة قاتلة في مواجهة الدونرز والأطراف الدولية وتعقيدات الحالة السورية. م م س ليس محصناً معرفياً وأيديولوجيا اتجاه الخروقات التي يمكن أن يحدثها العدو أو أي طرف ثالث لا يريد مصلحة الثورة. الملكة النقدية عند موظفيه تدمي القلوب. إنهم كما لو كانوا ببغاوات تردد ما يقال في الورشات ومن الدونرز دون أدنى محاكمة أو تفكير. في تلك الجلسات، تمر وصمات خطيرة عن “إرهاب” المجتمع السوري، و”دموية” ذكوره، و”جهاد نكاح” نسائه، و”مسؤولية” أفراده عن الحرب، دون أي رقيب أو مواجهة.. بل أحياناً تقبل وإثناء.

2. اللاشرعية

نعم، الثورة السورية طالبت بالتنوع، لكن ليس التنوع الهويات الفرعية المصابة بالعصاب، بل التنوع المعرفي وتعددية وجهات النظر وطرق التفكير عن الطريقة الأفضل لإدارة الثورة من أجل النصر، ولاحقاً إدارة البلد من أجل النهوض به. في التنوع المعرفي، يكون الولاء للهوية الجامعة. أما في التنوع الهوياتي يكون الولاء للهوية الفرعية.

م م س غارق حتى النخاع بمغالطة “التنوع والتعددية”، وهي المغالطة التي تقول أن الشرعية على علاقة سببية مع التنوع والتعدد. أي أن ازدياد التنوع الهوياتي، الإثني والطائفي والخ.. في المؤسسة، يزيد من شرعيتها. وهذه المغالطة المتهافتة فلسفياً وعلمياً اكتسحت اليسار بشكل عام وساهمت بانحساره. العلاقة بين الشرعية والتعددية ليست سببية، الشرعية لا يمكن أن تأتي إلا بانتخابات. أما التنوع، فبالرغم مما قد يحمله من نبلٍ إلا أنه ليس أداة لاستجلاب الشرعية، بل ((عارض جانبي)) لها، إنه مُسَبَبٌ لا مُسَبِبٌ. التنوع والشرعية على علاقة طردية، لا علاقة سببية. وأما طوطمة التنوع لوحده، بل تفسير واحد معين منه، هو أداة مَن لاشرعية أو شعبية له للمناورة حول الانتخابات.

من انتخب المجتمع المدني للجنة الدستورية؟ هناك في هذه الكتلة اللعينة ناس لا يتكلمون العربية! كيف لأي سوري أن ينتخب أحداً لا ينطق العربية للدفاع عن مصالحه في لحظات الاستماتة؟ ناهيك عن تخصيص 50 مقعداً تماماً ل م م س من أصل 150 في اللجنة، أي ثلث السوريين، ولا أدري كيف أتوا بهذا الرقم، وجلّ المقاعد يملؤها أفراد مجهولين أومعروفين بعداوة المجتمع السوري ومبادئ ثورته. لا يمكن أن يتفق أحد أن هؤلاء يمكنهم تمثيل مصالح الشعب السوري بأي حال من الأحوال. ولولا حراك بعض الناشطين المدنيين القدامى والنبلاء من أجل تعطيل هذه الكتلة وحث أعضائها للاستقالة (خطوة نجحت جزئياً وسببت بعض الاستقالات فيها)، لكان الأمر أسوء من الآن.

بالنسبة ل م م س، فهو يرى أن حظوه بمباركة الأمم المتحدة كافٍ لشرعنة وجوده. أي أنه مقتنعٌ أن شرعيته لا تأتي من الشعب، بل من كيان خارجي. وهكذا، المجتمع المدني السوري ليس حليفاً للشعب السوري ، إنه طرفٌ ثالث هناك، ضده أحياناً، حياديٌ اتجاهه في الأحيان الأخرى. لا يبدو أن م م س يعترف بضعف شرعيته، بل يباهي نفسه ببركات الأمم المتحدة. هذا ما رأيناه عندما تقاطرت مؤسسات م م س تبارك لتشكيل الكتلة الثالثة وزملائهم من المنظمات الشقيقة التي شغرت مقاعدها.

كل لحظة تحضر بها الكتلة الثالثة في اللجنة الدستورية هي زيادة في النقمة التاريخية والفوبيا المستقبلية اتجاه “المجتمع المدني” وما يمثله، “خائن العهد اللاشرعي” هذا، “المنقلب على الثورة، وعدو الشعب، وذلك الكيان الانتهازي الغدار الذي لا مبادئ له”.

3. اللاثورية وقتل الدافع الذاتي:

اللاثورية non-revolutionary، تختلف هنا عن معنى “الثورة المضادة counter-revolutionary”. م م س “لاثوري” بمعنى أنه يملك “شكّاً” بالثورة في أيام الثورة، لا “عدوانية” كما تفعل “الثورة المضادة”.. الشك والتريب من الثورة وما قد تتسبب به من دماء أو خراب متغلغل بـ م م س. إنه أحياناً يلوم الثورة على خراب البلد كما تُلام المُغتصبة على اغتصابها. إنه يتجنب أن ينسب نفسه للثورة ويريد التخلص من “عبئها”. هو خرق ضارب للمعنويات في صفوف الثورة خلال أيام تحتاج بها الثورة إلى الارتصاص والتماسك والإيمان بها.

م م س محكوم بعقلية “حبوا بعضكن” اتجاه كل شيء في الوجود. وهذا على عكس عقلية “واجه وقاوم” التي تحتاجها الثورات أمس الحاجة. إنه يطوطم السلام حتى إن كان ذلك يعني سلاماً سلبياً يخلد الطغيان أو يفني البشر. لـ م م س، سلامٌ سلبي أفضل من ثورة محقة.

ولعل أحد أهم الموارد المعنوية لأي ثورة هو “الذاتية” التي تدفئ قلوب الثوار وتنير دربهم نحو النصر. في وقت الثورة، يتحقق التحول نحو الذاتي عند الأفراد، ويغدو تركيزهم على الثقة الذاتية وتطوير الذات واصلاح الذات ولوم الذات في الأخطاء والإثناء على الذات في النجاحات.. باختصار، تغدو الذات مرجعاً، ولا شيء خارج الذات (مثل الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي أو الدونر). هذا الدافع الذاتي تم تصديره لأطراف ثالثية من قبل م م س. قدوم المجتمع المدني أدى لتصدير “الذاتية” الثورية نحو الغرب ومؤسساته، الذي يتم قصفه بحملات مناصرة متحيزة أيديولوجياً وغير محسوبة تستهلكه عاطفيا مع الوقت حد جعله عديم الاكتراث في النهاية. كما وأدخل م م س المال الاجتماعي (مثل: المال السياسي) كدافع خارجي غير ذي رقيب أيضاً، قاتلين الدافع الذاتي والمبادرة الطوعية، مما بدأ دائرة لامنتهية أدت ببعض القطاعات المدنية لانهيارها نحو الفساد والارتزاق.

وباعتمادهم على الأطراف الخارجية الثالثية بدلاً من الناس المحليين، غدت تلك الأطراف الخارجية مرجع م م س الأخلاقي والعملياتي والمالي وجملة مقارنة نجاحاتهم وخساراتهم. لم يعد الإنسان السوري مركز النشاط ومعيار الآداء، بل غدى هامشياً وعارض أزياء للاستهلاك الإعلامي واستجلاب دعم الدونرز.

والأسوء، أنهم أزاحوا فعل “الثورة” إلى فعل “التذمر”. م م س يتحدث أكثر مما يفعل، ويتذمر أكثر مما يضغط، ويصرخ أكثر مما يحاجج، ويصرّح أكثر مما يمارس، ويسالم أكثر مما يواجه. لقد جعلوا الصورة الذهنية عن الثورة هكذا، أنها مناكدة طفولية عصابية، لا مشروع حقيقي شامل معقد مركب.

وشاهدنا اصطدام الشريحة الطهرانية الثورية بوضوح مع م م س. أحد أسباب هذه المواجهة هي أن م م س يحب معاداة وإضعاف الشريحة الطهرانية وتلويثها بتوجهات لاثورية أو لم تطرحها الثورة. ومهما ملكت من كلمات، إلا أنه لا يمكنني التشديد كفاية على أهمية الشريحة الطهرانية الثورية في المحافظة على الثورة ومكتسباتها واستقرارها.. هذه الشريحة عانت الاقصاء والعداء من قبل الجميع تقريباً، وانحسارها كان انحساراً للثورة كلها.

هكذا، غدى م م س أداة لشفط الطاقة الثورية لصالح أجندة لاثورية. ولم يمر الأمر على العدو دون انتباهه، ولم يقف دون اكتراث لهذا المورد الجديد الذي يمكن استثماره. فغذاه وحفّزه إذ هو يزيد الانقسام الحاصل في الصفوف المعارضة. حتى أن بعض مخرجات م م س غدت أدوات للبروباغاندا السياسية للاعبين سياسيين معينين، العديد منهم لا يرغبون للثورة والشعب السوري خيراً.

يدعي المجتمع المدني أنه لاسياسي. لكنه في الحقيقة كان طرفاً سياسياً من البداية. عندما ولّدته الثورة السورية أرادته أن يكون جناحاً داعماً لها، وعندما انفصل لاحقاً ليغدو طرفاً في اللجنة الدستورية، وعندما عادى الطهرانية الثورية والأجندة الثورية بشكل عام، وعندما استخدمه العدو كسوط يلجم الثورة والحاضنة الثورية.

لا أرى عيباً في أن يكون م م س طرفاً سياسياً، لكن أريده أن يكون في صف الثورة، ولا أرى له أي شرعية إن كان في أي صفٍ آخر.

4. عداء المجتمع:

ينطلق م م س من تفسير “تفكيكي اجتماعي” بدلاً من “تحالفي اجتماعي” في تكوين نشاطه ورؤيته وفلسفته. إنه على حرب مع الناس العاديين. بالنسبة له، الناس العاديون (لا النظام) هم سبب الوضع الحالي السيء، والحل الأمثل لا يكون بمحاربة النظام بل بـ “تثقيف” و”تعليم” الشعب. إنه بهذا الشكل أيضاً يطوطم كلمة “تثقيف” و”توعية” ولا يملك أي تكتيك لمخاطبة الشعب غيرها. كما لو كان هو المعلم والشعب هو تلميذ.. لا يعرف، أو لا يرضى م م س أن يكون مواطناً عادياً من أفراد الشعب، إنه متمترس في موقعه الفوقي كمعلم. إنه في صراع مع المجتمع بالمقام الأول، حيث بالنسبة له النزاع مع النظام هو أمر اختياري، وتغيير المجتمع لا تغيير السياسة هو الهدف الأساسي. هنا، اصطدم مشروع م م س مع الثورة السورية. الثورة السورية لا تعادي المجتمع بل الدولة، ورؤيتها للمجتمع إصلاحية وليست عدوانية. م م س على العكس تماماً، إصلاحيٌ اتجاه الدولة، وعدوانيٌ اتجاه المجتمع.

وقد جرت العادة والسهولة على المجتمع المدني أن يتملق الهويات الأقلوية، ويتجاهل أو حتى يهين هويات الحاضنة التي يعمل بها. تحديداً الهوية السياسية الثورية المعارضة، ولدرجة ما الهوية الفردية، كالجندرية (مثل تسبيب تريب يصعب التخلص منه ولا يمكن لعاقل أن يرى داعياً لتسبيبه عند شريحة من الرجال اتجاه النسوية). إنه كما لو أنه يملك مجموعة من الهويات المرفوضة والهويات المرضي عنها.. في زمن القتل على الهوية.

وبما أن راية القيم العلمانية في سوريا انتقلت إليه بحكم أحداث الحرب وبعضٍ من الحظ العاثر، أسس م م س لزيادة الاستقطاب والكره للعلمانية عند عامة الشعب، خصوصاً المسلمين السّنّة المعارضين، في وقت كانت عليه التيارات العلمانية أن تكون الأقرب لشعبها. وهكذا، زاد م م س الطين بلّة، وكان عالة على العلمانيين الجدّيين الذين كانوا يحاولون تعبئة مجتمعهم وموالاته و وإقناع أفراده بـ”جدوى دنياهم” في هذه الظروف. يدرك العلمانيون الجدّيون، خصيصاً من أصحاب الخلفيات السنّية، صعوبة علمنة المجتمع السوري بعد اليوم، و م م س يلام جزئياً لهذا.

5. الزيف والتزييف والتحيز:

هدف م م س ليس مساعدة الثورة السورية، بل العمل بجهد للكشف عن المشاكل الاجتماعية(لا السياسية) ومدى تجذرها في المجتمع والثقافة السورية. وهذا، إن أُخِذَ بذاته وبشكل موضوعي ليس هدفاً سيئاً، لكن إتيانه في زمن الحرب والثورة ملوناً بالتحيزات الشخصية والاستشراقية والأيديولوجية، جعله سكيناً في الظهر.

يتألف هذا القسم من أربعة بنود فرعية:

العلم التافه

م م س يقوم باستنباطات عن المجتمع لا يمكن لأي عالم جاد أن يتجرأ ويقول بها، لفراغها وتراهتها ولاعلميتها. كل إحصائي يعرف أن تعميم أي ظاهرة يحتاج أن يمر بسلسلة طويلة من المعايير والاختبارات الصارمة والعينات التمثيلية. م م س في المقابل أخذ راحته في توصيم المجتمع السوري بشتى الوصمات التي لم تعبر أدنى المعايير. إنه مصاب بظاهرة العلم التافه (junk science)، وهو اصطلاح يطلق على الكذب(أو التأليف) الملبس بالأرقام والشكل العلميين، وعادة ما يستخدم في السياقين القانوني والسياسي. م م س يستخدم العلم التافه لشرعنة ذاته وتدخلاته الضارة، بالإضافة إلى استخدام وسائل علمية تافهة للترويج لقضايا أخلاقية، تماماً كما يفعل اليمين المتطرف. وبذرّ بعض البهارات الإعلامية، يلجأ م م س لتضخيم المشاكل الاجتماعية كجزء من استراتيجية اقناع أصحاب الشأن والدونرز بأحقية التمويل والتمكين، حتى لو كان هذا على حساب الحقيقة وعلى حساب المساهمة في إهانة وتحقير المجتمع والتسبب بانهياره وكسرته.

التمثيل الزائف

تطلق النسويات حملات لتمثيل ومناصرة النساء، وتطلق مجموعات الأقليات حملاتٍ لتمثيل ومناصرة أقلياتهم، لكن لا يبدو أن أحداً أطلق حملة لمناصرة الهوية العامة والجامعة للسوريين. م م س مصاب بمرض الفئوية والخصوصية. كل تلك المنظمات توظف العلاقات العامة والمال الترويجي للظفر بدور الـ وصي عن أحد الفئات وليكونوا المرجع في السردية عنها. وسيلة م م س في ذلك هي الحشو والإغراق الإعلامي والتسابق من أجل التذمر والاستضعاف وأخذ دور الضحية، حتى يقنعوا أصحاب الشأن بأنهم يمثّلون من يدعون تمثيله بالرغم من أن عملياتهم في بعض الأمثلة قد شملت العشرات فقط من المستفيدين من تلك الفئة، مع استحالة شمل أي منظمة لكل العينة المستهدفة (أي، كل النساء، كل الأكراد..) في عملياتها، وتباعاً عدم اقتضاء اتخاذها دور الوصي عنها.

ولضعف تمثيل المنظمات، يحاول هؤلاء التعويض عن ذلك بعكس صورة غامرة من التوسعية في العمل واتباع لهجة بالغة في استخدام صيغ التفضيل ومخاطبة الأحاسيس. بدأنا نرى بعض المنظمات ممن ظفرت بدور الوصي و”واضع السردية” عن فئة سورية ما، قد أطلقت في الحقيقية هجاءاً يهزئ من المجتمع السوري الأعم. إذ أن اللهجة المبالغة في صيغ تفضيلها وعاطفيتها وأخذها لدور الضحية، تنتهي بتصوير الفئة بأنها حمل ضعيف محاطٌ بذئاب تريد أن تنهشه عند أقرب فرصة، الذئاب هنا كناية عن المجتمع السوري. وبهذا الشكل، ساهم المجتمع المدني بتصوير السوريين على أنهم ذئاب متوحشة.

شيطنة المفاهيم الحيادية

يلجأ م م س أيضاً إلى اللعب على اللغة وتوريد الصراعات الثقافية التي تحصل بالغرب إلينا. لديهم موهبة بتحويل مفاهيم حيادية وصفية مثل “ذكورية” و”قوة” و”سلطة” إلى شتائم ووصمات معيارية وتقييمية. يملك م م س قاموساً كاملاً من الاصطلاحات التي يلبّس بها عدوانيته بزينة ناعمة من التعقيد وإزاحة المعاني. يرتبك المرء في بعض الأحيان باستخدام اللغة في الحديث مع موظف في الـ م م س، يكاد يخاف أيضاً من النطق بكلمة “خطأ” ليست في الجانب الجيد من القاموس.

خطورة الأمر تتعدى التفاعل اليومي والتواصل اللغوي الإنساني الطبيعي. إن المحافظة على حيادية مفاهيم مثل “القوة” تحديداً مهم جداً لنجاح الثورة، إذ متى ما تم تحميل مفهوم “القوة” معنىً سلبياً فسينفر الثوار من السعي وراءه وكسبه للثورة.. مما يعني في النهاية إصابتهم بالـ”قوة-فوبيا” واكتساب داء “التمسكن والاستهانة بالذات” وإضعاف الثورة.

الانحياز نحو نوع معين من اليسار

فيما أن مفهوم المجتمع المدني بنفسه لربما يميل إلى اليسار قليلاً، لكن هذا لا يعني أبداً أن بعض الشرائح على اليمين وسط والوسط هم مستثنين من المشاركة في المجتمع المدني، ناهيك عن قسر الانحياز اليساري نحو تفسير معين من اليسارية التي يتودد ويتلطف لها م م س بشكل مهين. المجتمع المدني حصر نفسه بتفسير ميشيلفوكووي نسبوي ضيق جداً في تعاطيه مع معظم القضايا. وفي حين يجب أن يكون المجتمع المدني واقعياً ويدرك أن مسؤوليته هي تنظيم وتليين وتلطيف دور السلطة والقوة الطاغية حصراً، تراه في الكثير من الأحيان يعاني من السلطة-فوبيا المطلقة ويرفض التعامل معها بأي شكل من الأشكال، حتى وإن كانت سلطة ثورية حميدة وجدّية بسعيها للعدل. نراه أيضاً يعادي مفهوم “الوطنية” بمعنييها الليبرالي والإثني، عادة دون اقتراح بديل، اللهم ربي سوى قولهم أن “العصر الحديث لا يحتاج وطنيات، أكل الدهر وشرب على هذه الأفكار” أي اعتناقهم تفسيراً نسبوياً سائلاً ما بعد حداثيٍ للهوية، رافضين وجود شيء كالهوية الجامعة، معتبرين إياه “طغيانا”، ومنفرين بهذا الشكل معظم السوريين الفخورين بسوريتهم.

من السيء أن تخترق التفسيرات النسبوية أي سياسة ثورية، سوف يدمرونها ببساطة، ودون شعور معظم الثوار، سوف ينخرون بها بكلماتهم المعقدة التي يصعب على الآخرين فهمها والرد عليها ومحتواها السائل الساخر الهرائي الذي تقف عليه. نشير هنا أن شرائح معتبرة من اليسار، مثل أتباع هابرماس وأتباع اليسارية البراغماتية (ريتشارد رورتي) اصطدمت مع الفوكووين منذ البداية، واتهموا فوكو بالعدمية والهراء وجعله من الحياة “مسخرة”.. لربما كانوا ليقولوا نفس الشيء عن م م س. يمكن الاطلاع على (فليفبيرغ، 1998) لنقاش عن الخلاف في رؤية المجتمع المدني بين هابرماس وفوكو.

6. منصة سياسات الهوية:

يجب أن تنتشر مبادئ المواطنة النبيلة وتنغرس بين كل أفراد “المجتمع” الذي يعمل به المجتمع المدني. لا يجب عليه أن يروج لوجهات نظر فئوية أو يمارس فوقية نخبوية، ببساطة لأنه لن يقوم بدوره المناط إليه إن قام بذلك.

إن قيم المواطنة تكون أقوى إن غُرِسَت على مدى كل المجتمع. وعندما يغدو م م س فئوياً، فلن يستحق اسم مجتمع مدني بعد ذلك، بل تسمية موضوعية أخرى مثل الجماعة المدنية.. حتى كلمة “مدنية” أشك ببقائها هنا.

م م س بات تيار سياسات الهوية في سوريا. إنه حيث يجد الإنشقاقيون والكارهون لمجتمعهم وأصحاب النرجسية الفئوية مكاناً لا يُنَاقشون ولا يُنتَقدون فيه. إنه حيث تتخمر المشاريع التقسيمية والوعي التمييزي والقبلية الحديثة، حيث يتم تقرير الـ”نحن” والـ”هم”.. بالأحرى، مئات الـ”نحنات” ومئات الـ”همات”. كل هذا بالإضافة إلى قابلية تمويل هذه المشاريع المثيرة للجدل، حيث لا يخجل هؤلاء أن يقولوا باقتراحات تمويلهم للدونرز أنهم ينطقون باسم “السوريين”، وذلك ليس إلا ركوباً على واستخداماً لماركة الشعب السوري التي تستجلب الدعم.

بدلاً من الترويج للقيم الكونية والمتفق عليها، يروجون لقيم نسبوية. بدلاً من أن يروجوا لهوية كوزموبوليتالية إنسانوية مدنية، يروجون لهويات تمايزية فئوية قبلية. وإن أحد علائم الهزيمة الثورية هو الانشغال بالقضايا الخصوصية والشخصية والفردية بدلاً من الانشغال بالقضايا العمومية والسياسية.

ليست وظيفة م م س فصل الهويات عن بعضها وعن الهوية الجامعة أبداً، على العكس تماماً، وظيفة م م س الأساسية هي جمع هذه الهويات وجسرها ببعضها وفتح أبواب التواصل مع الآخر. بيد أن تضخم الدور الذي يمارسه م م س سيء جداً، لدرجة أنه بات يخترع أو يحث اختراع هويات متمايزة لم تكن موجودة في سوريا، أو إن لم يقدر، يوردها من الخارج توريداً لكي يرضي نرجسيته وهوسه الوسواسي.. ورغبته بجلب دعمٍ ما من الدونر وزيادة فرصه بالحصول على موقع “الوصي” على فئة ما.

على كل السياسات التميزيية أن تُرفض، حتى لو لُبِست بكلمات جميلة مثل “الخصوصية الثقافية” أو “الانحياز الإيجابي”. تقرير هذه الأمور المثيرة للجدل ليست من مهام المجتمع المدني، بل من مهام الشعب، والمجتمع المدني موجودٌ هناك ليكون أرضاً حيادية تسهّل للناس النقاش في هذه المواضيع. أما أن يكون طرفاً ضد آخر، فهذا قد يجعله أوتوماتيكياً عدو الشعب.

7. ثقافة الضحية:

الكيان الذي هدف لإعطاء صوت للفئات المستضعفة السورية هي الثورة، وليس م م س. للثورة تخيل معين لكيفية التعامل مع الفئات الضعيفة، وذلك بإدماجها بالحراك وإعطائها قوة وتمكينها معنوياً ومعرفياً وسياسياً وتوظيف التعاطف الوجداني والوطني العالي آنذاك للانفتاح الصحّي على رواية الفئات المشاركة بالثورة والتي لربما قد عانت من الظلم (الأكراد في شمال شرق سوريا مثلاً). والأهم تجاوز حالة الضعف التي سبّبها النظام القديم لهم.

اصطدمت الثورة بـ م م س حينما بدى كما لو أن الأخير غدى منصة انشقت عن الثورة وسرقت معها احتكار “تمثيل” أصوات المستضعفين، مع عدوانية ما على مؤسستها الأم: الثورة. وبدلاً من تجاوز الضعف، قلبت الفلسفة تماماً وجعلتها عبادة للضعف والضحية. آثر م م س التسويق لعقد المظلومية وطوطمة الضحية وعبادتها والتبرك بها، وجعل الملام الأساس هو المجتمع.

يميز كامبل ومانينغ (2014) بين ثلاثة ثقافات، ثقافة الشرف وثقافة الضحية وثقافة الكرامة. ثقافة الشرف قائمة على رد الاعتبار والسمعة وأخذ الحق باليد، وتثمّن قيم الجرأة والشجاعة. جرائم الشرف أحد أمثلتها. ثقافة الكرامة تعتمد في تحصيل الحقوق على التسوية(بلغة الشارع: “حل الأمور بين بعضنا”) أو إحالة القضايا إلى القانون، وتثمّن ضبط الذات والتسامح والفضائل المدنية والمسؤولية الذاتية في السلوك. وقال السوريون علناً أنهم ينتمون إلى ثقافة الكرامة وسموا ثورتهم بـ “ثورة الحرية والكرامة”. أما الثالثة، ثقافة الضحية، فهي بدعة حديثة تجمع الأسوء من الثقافتين السابقتين، حيث تعتمد على التذمر(وأحيانا: التنمّر) علناً في سبيل إحالة القضايا لأطراف ثالثة واستجداء التعاطف والمبالغة في أخذ دور الضحية. يثمّن هؤلاء الاضطهاد والتهميش الاجتماعي والدفاعية، مع التجنب الممنهج للتوكيد على القيمة الذاتية الداخلية للفرد وقوتهم الكامنة. معظم رواد ثقافة الضحية ليسوا ضحايا حقا، بل “متكلمين” و”وصايا” باسم ضحايا.

تطرف م م س بموقفه يمكّن القول عنه أنه بات معتنقاً لثقافة الضحية لا ثقافة الكرامة التي دعت إليها الثورة السورية. إنه انقلاب على الثقافة الثورية.

8. ضرب التواصل:

كما قلنا، على المجتمع المدني تهييء الأرضية وأقنية التواصل بين فئات المجتمع المختلفة وضمان حرية التعبير. يتراوح دوره من توفير مساحات فيزيائية للمسجالات، إلى دور خفي أكثر يكمن برفع العقبات القانونية والنفسية للتواصل وتحييد الضغط على الأفراد من أجل شراء سكوتهم. يتحدث علم النفس الاجتماعي عن ظاهرة التريب من التقييمEvaluation Apprehension، وتجارب آش في الامتثال مع الأغلبية. حيث يرى الفرد نفسه لوحده وسط ما يبدو إجماعاً، فينأى عن طرح رأيه خوفاً من العزلة والنبذ وسعياً وراء القبول الاجتماعي. هذه ظواهر كلاسيكية تصيب الفرد في تفاعله مع المجموعات وتمنعه من التعبير عن أفكاره وخوالجه بشكل واضح وصريح، وتنعكس بالطبع على شكل كوارث في القرارات الجمعية المتخذة.

على المجتمع المدني تحفيز الأفراد لكسر تريبهم أو خوفهم من عدم الامتثال مع الجمع، وتصميم البيئة والأعراف التي تسمح للمجتمع بالاستماع وقبول المخالف بالرأي، على أن يكون معيار النقاش الناجح هو الحجة الموضوعية الهادفة لإفادة الثورة والخالية من كل إحالة نحو الشخصنة أو تثقيل ومحاباة لأقلياتٍ مظلومة أو أكثريات مقموعة. هذا يعني رفض اللهجة الفئوية وعدم الاعتراف بها، فتح حرية التعبير، تحفيز الفكر النقدي البنّاء والهادف لتحسين الذات، وتشجيع الخطاب الذي يعترف بالمبادئ الكونية والشاملة للجميع.

م م س على أرض الواقع كان عقبة للتواصل في كثير من الأحيان، فيقصي المختلف عبر ضغطه بأساليب ضمنية غير فيزيائية، كالنبذ والتحقير والتشهير بالرأي (لا التشهير بالفعل حتى!) والعيب والغيبة والنميمة وضرب السمعة والخ.. ويستطيع أن يرى المرء ظواهر التريب من التقييم والامتثال في جلسات المجتمع المدني بين بعضهم نفسها، مما يودي بمخرجات شبه ديستوبية ضعيفة ومضرة بكل شيء حولها. م م س ليس واعٍ لدوره كضارب للتواصل بين السوريين وشارخٍ ومفتت للمكونات السورية. إنه يظن نفسه يفعل صواباً لسبب بسيط.. لم يتحده أحدٌ من قبل، ولم تنتقده أي جهة، لم يضع نفسه يوماً عرضة للمساءلة الشعبية، وهو كما الفصائل المتطرفة والنظام، يعزل نفسه عن الأفراد الذين ينقدونه، فيشطح وحده في فضاء وهمي من التوكيد الذاتي والنرجسي عن مدى فضله وعظمة دوره وروعة أعماله.

شيء من الحلول.. أمام الأمر الواقع:

قبل أن ينتخي المجتمع المدني و”يعلم” الشعب السوري عن الأخلاق، عليه هو نفسه بناء نظام أخلاقي ليتبعه ويتمسك به. المجتمع المدني لا يجب أن يكون تكتل موظفين يعملون ما يؤمرون به من الدونر بدون وعي. إنهم سوريون! وعليهم أن يكونوا سوريين. إن لم تكن أجندة المنظمة متوافقة مع الثورة السورية ومبادئ المواطنة فيحق، وأحياناً يتوجب، على الموظفين والمستفيدين وعامة الشعب الاحتجاج واتخاذ إجراءات مساءلة ومحاسبة، إن لم يكن قانونية، فاجتماعية، حيث يمكن إنزل عقوبة “السمعة السيئة” على المنظمة.

على المجتمع المدني السوري أن يلتزم بالوظائف التي أناطته بها الثورة السورية وأن يعود إلى كنفها. عليه تعريف الشرائح السورية على الآخر المختلف بلباقة وتمدن، لا بصدامية وعدوانية، وبناء ملكة نقدية حقيقية لجميع السوريين، فهي اللقاح أمام أي طغيان مستقبلي. يمكن أن يكون الأمر بالترويج لحِكم أساسيةً مثل “انقد الحجة الأقوى، لا الأضعف، للطرف الخصم من أجل أن يكون النقاش مثرياً”. ويمكن أن تكون قيم المواطنة والانتماء للثورة السورية جزءاً مؤسساتياً بنيوياً وثقافياً في عملها، ويُقيَّم الموظف عليه.

فأما عن القسم البنيوي فيمكن أن يبدأ من لحظة مقابلة الموظفين، حيث يتم التحقق من مدى انتماء الموظف لقضية السوريين وإدراكه لمسؤوليته ومراقبته لنفسه وضميره، ومدى قوة ملكته النقدية التي تمكنه من مواجهة الدونرز اللاثوريين أو التعامل مع المواقف الكثيرة التي تحتاج ارتجالاً أخلاقياً. وتُجعل مبادئ الثورة الجامعة، لا الفئوية، جزءاً من بروتوكولات المنظمة ومبادئها وإرشادتها السلوكية، فيتدرب الموظف على الالتزام بهذه المبادئ، ويوعّى على أنه محاسب على تطبيقها، وليس هذا فحسب، بل يُدَرَب أيضاً على الحوسبة الأخلاقية في المواقف الجديدة التي تحتاج ارتجالاً. وتُبنى أنظمة تحفيزية(قد يكون تحفيزاً مادياً أو معنوياً/اعتبارياً) لتكافئ الموظف على السلوك الأخلاقي واختيارته في المصلحة العامة. وتؤخذ القيم الثورية والاخلاقية وقيم المواطنة بالحسبان في كل التخطيطات الاستراتيجية التي تحدث على مستوى الإدارة، حيث يجب على الأخيرين الإجابة على السؤال “هل هذه الاستراتيجية على توافق مع مبادئ الثورة والحالة الصحية للمجتمع المدني؟ هل ستفيد الشعب السوري؟ وكيف؟”، والإدارة هنا ليست فقط مسؤولة عن تحقق المعايير، بل أيضاً عن شرح “كيف” هم سيحققون هذه المعايير على أرض الواقع. أي أن عليهم تجهيز دفاع واقعي منطقي عن موقفهم وتوقع قدوم النقد عليهم. وإنه من الأفضل إدماج المستفيدين وعامة الناس وآرئهم وتعليقاتهم ونقدهم في كل خطوة كبيرة أو استراتيجية يتم الاقدام عليها، وذلك يعطي عدة فوائد أهمها: فهم أعمق لخوالج المستفيدين وحاجاتهم، وجمع بيانات مهمة ومساعدة لإنفاذ الاستراتيجية، وتمثيل شيء من مصالح الناس في الاستراتيجية وضمان رضاهم، وكسب النقد البناء الذي سيحسن من الاستراتيجية.

وعلى الصعيد الثقافي، الغير محسوس، فعلى المنظمات اعتناق نظام تواصل مفتوح يرحب بالنقد سواءاً كان من داخل المنظمة أم من خارجها، ويدعو الموظفين دوماً لعرض رؤيتهم عن تطوير المنظمة، والمحاسن والمساوئ التي تقع فيها دون خوف أو تريب، إلى جانب الوعي الذاتي—كأفراد موظفين أو مؤسسة جامعة—بعدم العصمة، وأن بعض الأخطاء والكبائر لا يمكن تجنبها إلا باستماعنا لنقد خارجي. وكجزء من الثقافة المؤسساتية، إبقاء القرب الوجداني مع المجتمع، أي التذكير دائماً بـ “أننا حلفاء المجتمع هنا”، نحن لسنا طرفاً ثالثاً! على المنظمات إعادة الاعتبار للدافع الذاتي، وأن العمل المدني لذاته عمل سامٍ ومُقدر. كل منظمة يجب أن تكون “سوريا صغيرة”، أي مثلاً أعلى لكل المؤسسات والأفراد من سوريا التي نريدها بفضائلها المدنية والمواطنية، وحرية تعبيرها، وعدلها ومساءلتها وشفافيتها، ورعايتها لطاقاتها، وثقة أفرادها ببعضهم وولائهم لمبادئها، وإيمانهم بما تدّعيه من شرعية. يمكن أن تعبر هذه الثقافة حتى النشاطات اليومية والاعتيادية لعمل المنظمات، فقد يكون أحد مظاهرها تعيين “محامي شيطان” في نشاطات جلسات النقاش المركز مثلاً، حيث يُعطى هذا الشخص حقوقاً و”حماية دبلوماسية” ليأتي بما يحلو له من الحجج المضادة لكل ما هو سائد بين الجمع، فتُكسَر بذلك ظاهرة الامتثال مع الجمع وتتحرك البنى النقدية أكثر ويتم اثراء النقاش.

على المجتمع المدني السوري أن يقود الدونر، لا الدونر أن يقود م م س. حيث يترتب على م م س أولاً تقييم الحاجات الموضوعية اللازمة على الأرض، ثم مناقشة الدونر من أجل تمويل المشاريع اللازمة. أما ظاهرة “كيف ما بيسوق الدونر منسوق” واللحاق به والانصياع لأيديولوجيته وما يفرضه من مشاريع متحيزة، فهذا لا خير منه ولا من منفّذه. الشعب ليس خادماً وأداة ومطية لمنظمات المجتمع المدني.

على م م س أيضاً التوسع للتواصل مع المنظمات الشقيقة في المجتمع المدني والتنسيق معها وتوزيع المهام حسب الاختصاص بالخدمة لا الاختصاص بالهوية، وعدم اعتبار الموضوع مضاربة بل تعاوناً.. المجتمع المدني ليس بيئة رأسمالية مثل سوق البورصة، إنه المكان حيث ينفع فيه التعاون، لا المضاربة.

أخيراً، على الشعب أن يولد أدوات أساسية مفتوحة لتقييم ومساءلة مؤسسات المجتمع المدني، لربما على خطى مبادرة مجموعة #لسا_موجود في تقييم المعارضة السورية. هذا سيفعّل الشعب السوري ويعيد محوريته إلى الواجهة، وسيعطي المنظمات نقداً مهماً لتحسين دورهم وآدائهم أيضاً.

مراجع

Campbell, B., & Manning, J. (2014). Microaggression and moral cultures. Comparative sociology, 13(6), 692-726.

Flyvbjerg, B. (1998). Habermas and Foucault: thinkers for civil society?. British Journal of Sociology, 210-233.

Habermas, J. (1990). Moral Consciousness and Communicative Action. Cambridge, Mass.: MIT Press.

السني الأخير والعلوي الجديد في سوريا

Edney-6-e1424082478428.jpg

لنتخيل سوريا جميلة بدون سنّة مسلمين. لا تفجيرات، لا دواعش، لا جبهة نصرة، لا هتش، لا كل هذا الطيف الإسلامي الجهادي، لا ذقون طويلة بشعة، لا حجاب قبيح، لا خمار أسود ملوثٌ للبصر، لا مجتمع أبوي ذكوري يقمع المرأة، لا مزيد من هؤلاء المتخلفين الذين يأتون بالكثير من الأطفال ويرمونهم للشارع، الأقليات اللطيفة ستعيش بسعادة أبدية تمارس “هرطقاتها” الطائفية والإثنية دون ما يعكر صفوة شطحاتها، وحان الوقت للمرأة الجميلة أن تطلق شعرها الأنثوي المكبوت في الهواء لتداعبه الرياح وأخيراً.. وأخيراً..

تقول القصة أنه في صباح أحد الأيام العشوائية، ودون أي سبب سوى الملل وقلة الصنعة، استيقظ السنّة السوريون يريدون الدم وإبادة كل الأقليات الأخرى للتسلية، لم يكن يهمهم قتيلهم لطالما كان أقلية، فقتل الأقليات بالذات تسلية مضاعفة. أقليات سوريا، تلكم الجماعات البريئة، “الوطنية جدا”، التي ما برأت أن أكدت مراراً وتكراراً على حبها وتعلقها بسوريا ونسيجها وتضحياتها للمحافظة عليه. أما السنّة، أولئك اللاوطنيون المتخلفون، كانوا دوماً نعرة في وجه تقدمية الأقليات، ومثبطاً أمام تعاظم مظلومياتهم، وحاجزاً رافضاً مانعاً لوصولهم إلى الحكم وممارسة العلمانية السياسية.. آه فقط لو كُسرت شوكتهم! آهٍ آه..

أعلاه كانت سردية من تلك السرديات الدارجة، وحالياً: الناجحة. وفي مظهر عبثي أيما عبث، كثيرون ممن توجب عليهم محاربة تلك السردية كان قد انتهى بهم الأمر أن روجوا لها.

وقد تجاهلت جميع الأطراف العالمية والمحلية، سياسةً وعسكرةً وإعلاماً، سردية الطبقة المتوسطة من سنّة المدن بعلمانيهم وبمتدينيهم، وهم معظم السنّة ومحور ثقلهم والعمق الديموغرافي لسوريا وحَمَلة التجارب والسرديات الأكثر موضوعية عن الثورة السورية، نحن نتكلم هنا عن ثوار حمص وحماه ودمشق ودرعا.. الخ.

تخيلَ هؤلاء الأخيرون سوريا جميلة، يعيش بها الجميع تحت ظل القانون والمحاسبة والمواطنة، وبخجل لفظي لا سلوكي أرادوا علمانية ما، ضمن نظام ديمقراطي متوازن لا يسمح لا لأقلية ولا لأكثرية هوياتية أن تطغى على الآخر، على الأقل لا تطغى بشكل مستدام، لا شيء يطغى سوى الأجندة السياسية التي تحقق مصالح الشعب، كما يقررها الشعب. أرادوا سياسة مأمونة تمكّن أفراد المجتمع من التركيز على تنمية مجتمعهم المحلي والأهلي، والانفتاح والتواصل مع الآخر والسماع له، ولربما تقبله أيضاً، و تعزيز المبادرة المدنية والفردية.

محجبةً أم “على القرعة”، حليقاً أم ذا ذقنٍ، العم حنّا أم العم معاوية، لا يهم ما يبدو من شكلك أو اسمك، ما يهم أهليتك لإفادة المجتمع حولك، فإن كنت مضراً له أو متقاعساً عن خدمته، تُكره، وإن أفدته أُحبِبت.. نطالب بحرية الكره، وحرية الحب أيضاً. نطالب بحب مدننا، وحب كل من يحب مدننا ويريد الخير لها ولساكنيها. للمجتمع السوري روحٌ وجب المحافظة عليها، أصدقاء العائلة وضيافة الأعراس وحضور العزاء وزيارة الرحم وطقوس العيد وسُفرة رمضان وجلسة التلفاز بعد الإفطار حول مسلسل “الفصول الأربعة”، كلها بذواتها هي روحٌ ثقافية.. بعيداً عن مغزاها الديني، وأقرب لمغزاها الاجتماعي (وهذا المغزى يعاديه الكثير من “العلمانيين”، ويفتقده الكثير من المهاجرين التي تئن نفوسهم لمجتمعهم الضائع).

كان هذا المشروع الذي فشل.. السردية التي طُمست.

انجلى لي أن كان الكثيرون ينتظرون موتنا وطمس سرديتنا، كانوا هناك يتربصون بنا وينتظرون لحظة هيمنتهم—”الديموغرافية” لربما؟—ليخرجوا بما أتوا به من أجندات غريبة، أجنبية، عدوانية، فئوية، استشراقية، كانت لترفضها الديموغرافيا القديمة العميقة العضوية، تلك التي ورثت حجارة حمص السوداء وسور دمشق المنيع، وبينما نحن ندفن أحبتنا ونبكي عليهم، كانوا هم هناك يتربصون بنا كما تربص الشيطان الشامت بالمسيح عند تعذيبه، ويتمنون أن تزل أقدامنا ونلحق فقيدنا إلى القبر ليأتوا هم ويطمرون التراب علينا.. ليدفنوننا أحياءاً مع موتانا.. ونحن، من تبقى، لا بواكي لنا، فقد مات كل من كان ليبكي علينا.

السنّي الأخير:

السنّة ليسوا جماعة طائفية ميتافيزيقية تُعرفها طقوسهم الدينية، بل باتوا جماعة ثقافية، منهم العلمانيون ومنهم الإسلاميون.. أهدافهم واحدة، مصيرهم واحد، تنميطهم واحد. أعداؤهم لا يفرّقون بين علمانيهم ومتدينيهم، وحربهم مع باقي الطوائف، بالأخص العلوية، هي حرب ثقافية بالمقام الأول، لا حرب ميتافيزيقية، هي حرب بين طريقتي حياة، وهذه أخطر من الحرب الطائفية، فحتّى وإن حُلّت الفوارق الدينية بين الطائفتين، سيبقى العداء الثقافي باقياً وعابراً. ومن بعد هذا الذكر فسأقصد بكلمة “سنّة” تكوينها كجماعة ثقافية، لا كجماعة طائفية، وبكلمة “أخرى” و”آخر” و”آخرون” ضمن علامتي تنصيص  كـ(كل الطوائف الأخرى+الأكراد) ومرة أخرى، فإن المقصود بشملهم بهذا الشكل، هو تكوينهم ثقافياً، لا ميتافيزيقياً أو طقسياً. وهذه المقالة مأخوذة من منظور سنّي بحت، وانعكاس لما يراه المجتمع السنّي.

إن هذه الثقافة السنية هي التي استُهدفت في السنون الأخيرة.. إن السّنة يواجهون شبه حرب إلغاء ضدهم. إنها حرب بين أقليات مستشرقة طغيانية، وبين أصحاب هوية عضوية حقيقية..

أبى السّنة التطرف، وفي اليوم الذي تأسلمت وتعسكرت به الثورة، نزلت التعبئة الثورية في الشارع من 70% من الشعب السوري (معظهم سنّي) أيام المظاهرات السلمية والمدنية، إلى ما يقرب الـ5% عند التسلح الجهادي. أي نزلت النسبة بمقدار 92.86%.

لم يرد هؤلاء ال92.86% من الثوار أسلمة الثورة.. لكن كان رد الأقليات المتوحشة أن عممت عليهم كل صفات الشيطنة والسواد بالرغم من هذا، وبكل تعامٍ عن النسبة أعلاه.

لم يميز العلوي والشيعي بين السنّي العلماني والسنّي المتدين، ولا بين الـ92.86% والـ 7.14% منهم. وكان السّنة المتدينون ينبهون علمانيهم عن وحشية الأقليات الشيعية ووجوب عدائهم في حين تجاهل العلمانيين لهذا التنبيه، فقد كان المتدينون والعلمانيون يتبادلون تجاهل بعضهم آنذاك. ضعف التواصل هذا وشخصنة النزاعات باء بأن تحذيرات الطرفين المهمة والمفصلية لم تصل للآخر، وانتهينا بكارثة بحق الإثنين.. إبادة حقيقية.

في عام 2010، كان السنّة من غير الأكراد يشكلون 64% من سكان سوريا، وفي 2018 أصبحوا 48.9% (المصدر). هذا ما يمكن القول عنه أنه ظاهرة تلاشٍ في التعداد السكاني، وتعطى بالمعادلة

P1 = P0 . (e)rT

حيث P1 هي النسبة المئوية في سنة ما

P0 هي اللحظة(أو السنة) المبدئية المراد المقارنة معها

e هو عدد أويلر

r هو معدل التلاشي

T هو فرق السنين بين الP0 و P1

وبحسب المصدر المذكور سابقاً، وباستخدام المعادلة السابقة، يمكن حساب معدل التلاشي r باعتباره مجهولاً، والذي ساوى -0.03364

وفصلتُ الأكراد عن السنّة لأسباب سأذكرها بالقسم بالتالي من المقال.

يمكن نمذجة تلاشي السّنة ديموغرافياً حسب المعادلة أعلاه. واستطعت (بمساعدة أصحاب الخبرة) توليد 6 سيناريوهات شبه واقعية ومحتملة مما سيحدث في المستقبل حتى مئة سَنَة إلى الأمام. السُّنّة باللون الزيتي، “الآخرون” بالبرتقالي. اعتمدت هذه النماذج على ثلاثة متغيرات، وجود/غياب النظام، عودة/عدم عودة نصف اللاجئين، وإرخاء/عدم إرخاء القبضة الأمنية (وهذه الأخيرة يترتب منها تغيير معدل التلاشي).

Case 1.jpeg

السيناريو الأول: يبقى النظام، وبحلول عام 2025 يعود نصف اللاجئين (السّنّة) ويتم إرخاء القبضة الأمنية رويداً رويداً عبر السنين

Case 2.jpeg

السيناريو الثاني: يبقى النظام، وبحلول عام 2025 يعود نصف اللاجئين (السنّة)، ولا يتم إرخاء القبضة الأمنية أبداً عبر السنين

Case 3.jpeg

السيناريو الثالث: يبقى النظام، لا أحد يعود من اللاجئين، ولا يتم إرخاء القبضة الأمنية أبداً عبر السنين

Case 4.jpeg

السيناريو الرابع: يبقى النظام، ولا أحد يعود من اللاجئين، ويتم إرخاء القبضة الأمنية رويداً رويداً عبر السنين

Case 5.jpeg

السيناريو الخامس: يرحل النظام، وبحلول عام 2025 يعود نصف اللاجئين (السنّة)، ويتم إرخاء القبضة الأمنية رويداً رويداً عبر السنين

Case 6.jpeg

السيناريو السادس: يرحل النظام، وبحلول عام 2025 يعود نصف اللاجئين (السّنّة)، مع اختفاء القبضة الأمنية تماماً

من بين ال6 سيناريوهات أعلاه، 3 سيكون فيها السنة أقلية نسبية حتى 100 سنة إلى الامام، و2 سيكون فيهما التلاشي تدريجياً حد الانقراض. وعن السيناريوهات الثلاث الأخرى التي توحي بكون السنّة أكثرية بعد 100 سنة، واحد منها لن يتحقق إلا على مدىً متوسط (سنة 2050 تقريباً)، وإثنان سيكون فيهما التقارب الديمغرافي مع “الآخرين” متقارباً حداً خطيراً. هذه الاحصاءات والنماذج ليست مثالية تماماً، لكنها تعطي صورة عامة قريبة لواقع ما قد يحصل. ستكون السنين القادمة صراعات ديموغرافية على الهيمنة.

بحلول 2020 يستنبئ النموذج بأن تعداد السنّة في سوريا سيكون بين 45.72% و 47.21%

إننا نتلاشى، ولربما ننقرض.. إننا نموت ونتعرض لإبادة، ولا يبدو أن أحداً يكترث

في خضم في هذه المعمعة، نرى أنه جرت العادة مؤخراً أن يزهق الفرد السنّي نصف جلساته التقديمية وهو يستبق تبريء نفسه من “الإرهاب”، في ظاهرة مقرفة من عقدة النقص والأدلجة وتقبل البروباغاندا والاستشراق، في حين أن الواقع يدل أن الإرهاب يحصل بحقه، لا هو ما يسبب الإرهاب. وعلى مستوىً جمعي، ظهرت شريحة كاملة مشابهة لذلك الفرد، كانت قد اجتافت عقدة النقص والذنب وتبرئة الذات واقتنعت بالرواية الاستشراقية عن السّنة، فباتت تياراً يترجى الغرب بأن يصدقه أنه “تقدمي، نسوي، بيئي، مُتَنور، علماني، معادٍ للإرهاب، ضد تعدد الزوجات..” وغيرها من القضايا الاجتماعية، منها المُصَدّر ومنها المحلي، لكن معظمها قضايا  لاسياسية. إنه كما لو أنه ولد في لعنة لن يكسرها سوى الغربي البعيد.

السني الأخير، ذلك الذي سيعيش(أو بالأحرى سيموت؟) بعد مئة عام، سيكون سنياً مُروضاً ساذجاً، علمانياً على الأغلب، من أنصار “التعايش والسلام”، رومانسياً مخدراً حد العمى، يبرئ نفسه من الإرهاب فور لقائاته الأولى كأنه متهم، وكأنه يبرر افتراضات الآخرين بأنه متهم أيضاً، لاسياسياً، عدواً لجماعته السنّية إذ سيكون مع المعسكر الذي يقول بوجوب “تفكيك المجتمع المتخلف”. سيكون شخصاً فئوياً يبحث عن جميع التيارات الفئوية اللاسياسية الممكنة التي يحاول حشر نفسه للانتساب إليها، مع إنكارٍ مقصود ومستمر لهويته السّنية والتي تعني تباعاً معاناته من أزمة هوية. هذا السنّي سيكون، بل يكون، عدواً للسّنة ويريد فناءهم وعالة عليهم. إنه مستهلك وطفيلي.

اليوم، حُصر السّنة في زاوية لا خلاص منها، إنهم الآن قطة فزعة تريد خدش كل ما يقترب منها، لا حل سوى الانتكاص إلى هويتهم وتعزيزها والدفاع عنها من الإفناء.

لم يكن صادق جلال العظم أحمقاً، بل كان مفكراً كبيراً، وعندما اتُهم بانتكاصه “لصالح طائفته” بالرغم من أنه معروفٌ بعلمانيته الشديدة (ولربما إلحاده حتى) لم يكن هذا تناقضاً أو توصيماً وهمياً.. كان واقعاً وخطوة صحيحة (برأيي على الأقل) ومتماسكة منطقياً من قبله للتأقلم مع التغيرات في البيئة حوله. كل العلمانيين السنة عليهم أن يعوا أنهم منمطون مع المتدينين السنة مهما حاولوا الهرب، وأنهم يفنون معهم.. على كل السنة العلمانيين أن يكونوا مثل صادق جلال العظم.. علمانيين ميتافيزيقياً، سنّة ثقافياً وهوياتياً، دون أي عقدة نقص أو أزمة هوية.. ومن يريد للسنة الإبادة عليهم أن يريدوا لهم الإبادة بالمقابل. العلمانية لا يجب أن تحل على السنّة إلا إذا أراد السنّة ذلك، وعلى الريادة العلمانية في سوريا أن تولد من خلفية سنية حصراً.. على خطى صادق جلال العظم..

العلوي الجديد:

في سوريا، معظم الفئات “الأخرى” تريد أن تكون علويةً. لا نملك “آخر” يريد أن يكون سورياً، العلوية أفضل من “السورية Syrianism” لمعظم هذه الأقليات والفئات ولشريحة من السّنة نفسهم. لا أحد يريد أن يرى سردية الأكثرية السنّية كما يراها السنّة. “الآخرون” يريدون أن يكونوا حذاءاً عسكرياً، لا مواطنين مدنيين مُساهمين. ومهما حاولت، لم يعد يمكنني تجاهل العلاقة الطردية بين أن يكون المرء من أقلية، وبين كونه على الأغلب عدواً للثورة، مقتنعاً ببعبعة للسنّة، وموالياً للنظام(ولا يهمني إن كانت موالاته عن خوف أم عن ولاء حقيقي)، هذا الافتراض التنميطي بات مدعوماً بدلائل منطقية وتوكيدية تراكمت عبر السنون الماضية، وكلها تعزز هذه الذهنية السنّية الآخذة بالتوسع. لا يمكن للسّنّة أن يكونوا سوريين في حين أن جميع “الآخرين” يريدون أن يكونوا علويين، بل من المخطئ والأحمق على السّنة أن يكونوا سوريين في هذه الظروف. وليست “علوية” طائفة بعد اليوم، إنها بنية ثقافية، إنها شتيمة ووصمة تحمل معاني “طغيان الأقلية” والتي يمكن تعميمها على كل الأقليات، بما فيها تلك الإثنية.

القاعدة في سوريا عن الإثنيات هي أن تندمج ضمن إطار أعم لربما اسمه “الثقافة الشامية”.. سمّه ما شئت. وتلك الاستثناءات التي لا تندمج تغدو ديناً أو طائفة طغيانية. من التركمان حتى الشركس والألبان والبلغار والبوشناق، وحتى لدرجة ما، الأرمن، كان السائد أن تندمج هذه الإثنيات، ولم يكن المجتمع السوري يوماً منغلقاً اتجاه دمجهم، بل على العكس سهّل اندماجهم. ويبدو أن من لم يندمج.. ما اندمج إلا لأنه لم يرد أن يندمج.

سأقول قصة: في عيني ثلاثة شظايا محترقة صغيرة كانت اخترقت جفوني وأحرقتها يوم جمعة آزادي في 20 أيار 2011، ولا يزال المرء يستطيع رؤيتها بعض الشيء إن دقق قليلاً. لم أشعر بالندم عندما نزفت في جمعة أزادي، كنت فخوراً جداً بمناصرتي ثورتي وقضاياها المُعرب عنها من اسم هذه الجمعة. لم أشعر في تلك الأيام بخوف أو تريب من العلم الكُردي ذو الشمس (وأنا ذو الأصول التركمانية)، كنت أرفعه، أهتف له، أتعاطف مع المنتمين إليه، لم يكن لدي أدنى مشكلة معه.

لكنني قد كنت أحمقاً، كان علي أن أخاف من كل علمٍ غير علم الثورة السورية. لم يفرق سلوك العلم ذو الشمس عن سلوك الأعلام السوداء والبيضاء الإسلامية.. وثلاثة شظايا في عيني قد لا تكون ندبة شرفٍ أبداً، بل لربما ندبة عارٍ حتّى. لقد كنت ساذجاً، أنني أنا ابن حمص آمنت بوحدة السياق والآمال مع ابن عفرين والدرباسية. ثلاثة شظايا بكيت دماً بعدها، لو استطعت لأعدتها إلى من أطلقها علي، لطلبت منه أن يخبئها لي ليوم آخر أكثر أهمية لي.. أكثر “معنىً” لي. أشعر بالغدر الشديد، أشعر بسكين في ظهري وشظايا محترقة في عيني. ليس هذا لإنني أكره الأكراد إثنياً، بل لإنني بت—مثل الكثيرين—أتريب من الكردي والهوية الكردية كما لو أنها .. علوية!

ولدت “قسد” من هذه الحرب، هم اليساريون الجميلون كما يُسَمَون في الغرب، اليسارجيون القميئون في لغة الشرق، الطابور الخامس في لغة الثورة. واستهدفت قسد الشريحة الأكثر تطرفاً ولاسورية من الأكراد، والتي لاحقاً شدّت مساحة معتبرة من الطيف الكردي بشكل أو بآخر لاعتناق السردية القسدية الأقلوية القبيحة، حتى جعلت شظاياي الثلاث وبكائي الدامي يُنسى مع الرياح.. قسد، أصحاب الراية الصفراء بصفراء لونهم، ذلك اللون الذي لم نرَ منه خيراً يوماً، لون السارين والكيماوي، لون اليرقان والمرض. وقد جعل هؤلاء الصُفرُ من الكردي علوياً جديداً.. أصفراً. وأزاد الطين بلّة انضمام السنّة العلمانيين السذّج إليهم، إما انحيازاً يسارجياً أيديولوجيا أو لعقدة نقص وتبرئة من الإرهاب.

بعد أحداث عملية نبع السلام، وانحياز قسد لصالح النظام، حصل شرخ جديد مفصلي شبيه بالشرخ بين الإسلاميين بعد بروز داعش، العلمانيون نفسهم انفصلوا وانقسموا واستقطبوا، منهم رافض لعملية نبع السلام، ومنهم مؤيد، والعديد حيادي إما إيجاباً أم سلباً. وفيما وقف العالم كله يزكّي المظلومية الكردية “المسكينة” بكل لاموضوعية ولاتاريخية وحقد متحيز مقصود ضد الطرف المقابل، فَهِمَ القسم المؤيد للعملية عظمة عداوة العالم للثقافة السّنية العميقة في سوريا ورغبته بتهميش مساهماتها القِيَمِية والمبادئية للثورة السورية، وبات السّنّي المتدين والسّنّي العلماني في نفس المعسكر. بل وتنمّط السّني العلماني—الذي يكره قسد ويقف مع العملية ضدهم—المُطالب بدولة وطنية ليبرالية علمانية قائمة على المحاسبة، مع أبو عمشة. وزاد الطين بلّة أن نجحت كل الآلات الإعلامية بصنع شرخ بين العمق الديموغرافي السني السوري والأكراد. أصبح الكردي ديموغرافيا منفصلة، أصبح مع “الآخرين”، وصار يُحسب كما لو أنه طائفة. بات التريب حاكماً عند لقاء كردي ما في مجلس ما، شعورٌ بعدم الراحة يطغى على الراحة عند لقائه، مداراة للكلام، ملاطفة أوتلطّف، وهروب ورغبة بالتخلص من الحديث أوالتحجج بشيء ما هرباً منه. هكذا، غدى الكردي علوياً جديداً.. غدى أقلية في حين كان من الممكن أن يكون سورياً.

كما قال صديقي لآخر كردي: “لماذا تكتفي بحكم الحسكة وعامودا في حين كان بإمكانك أن تحكم كل سوريا لو وقفت مع الشعب السوري؟”

نعم لبعض من الحدود، كفى انفتاحاً أحمقاً

في بدايات الثورة، ارتكب الثوار خطأ فادحاً. قاموا بالتلبرل لبرلة مُصرفة. فتحوا أياديهم وأبوابهم للجميع، للصالح والطالح، للطاهر وللنجس، للخائن للثورة وللوفي للثورة، لليبرالي والأوتوقراطي، للإسلامي وللعلماني، للمتعصبين للثورة وللـ”مُرتخين” للثورة، للقاعدي والأخواني والشيوعي. كان ذلك بهدف شمل الجميع، بمن فيهم أولئك الذين لا يؤمنون بالثورة ومبادئها. ويا لها من حماقة.

أريد القول أن بعض الحدود، أو لنقل بعض المعايير هي شيءٌ إيجابي وخطوة أفضل من لا معايير. ماذا عن “إن كنت لا تؤمن بمبادئ الثورة فأنت عدوّي”؟، أو “إن لا ترفع علم الثورة فأنت عدوي”؟، أو “إن كنت تريد إبادتي، فسأبيدك عن بكرة أبيك”؟ . معايير بالرغم من بساطتها إلا أن لا اتفاق عليها.

وعن أولئك “الآخرين”، الأقليات المتوحشة، فيما كان سلوكهم سلوك إبادة وخطابهم خطاب عداوة، اعتنق السّنة العكس، فجعلوا خطابهم إبادة وسلوكهم مجرد عداوة، فلا ربحوا الدنيا ولا الآخرة.

والبديل للسّنة الذي أقترحه أن يكون الخطاب عداوة والسلوك أيضاً عداوة.. عداوة مستدامة طويلة الأمد. لا ثقة لنا بالـ”آخرين”، ولن يكون لنا ثقة  بهم. لا بأس بأن يفترض السّنة (لا من الفراغ والنزوة! بل من التجربة والتفاعل) أن الأقليات متوحشة بحالاتها القياسية الطبيعية، وأن يتريبوا منهم بدلاً من الانفتاح عليهم. الأقلية لا يُعتمد عليها في بناء وطن، ولا في تكوين بلد أو دولة.. لا يعتمد عليها في شيء.. الأقلوي لاوطني، متوحش، غدّار، عدائي حتى يثبت العكس. فإن تعاون تعاوننا، وإن أراد لنا شراً أردنا له شرّين.

لا يمكن أن تكون وطنياً إن كان لا أحد غيرك يريد أن يكون وطنياً. الوطنية هوية تجمع جميع الفئات تحت إطار المواطنة. البعض لا يريد هوية مواطنة. البعض لا يريد هوية أبداً قائلين “أن الدهر أكل على التحلق حول الهويات وشرب”. من لا يريد أن يعترف على “السورية” كهوية سيبقى بلا هوية، سيملك فراغاً وخواءاً.. وأقول له أن أي هوية أفضل من لا هوية.. وهوية متبلورة أفضل من ستين ألف “فئة” سائلة تعوم في فضاء ما بعد حداثي مقرف.

الدين هوية، بمفهومه العلماني إنه هوية وهوية ناجحة أيضاً، والدين أنفع للتعاضد والمحافظة على استقرار المجتمع—أو بالأحرى “الجماعة”—وتعاضد أفراده وصحتهم النفسية. إنه أفضل من تأرجح اليسارجيين اللاهوياتيين وفراغهم وضياعهم. إنه أفضل من لاهوية. قد يكون أسوء من الهوية الوطنية (بنظري).. لكن لا حل لنا سوى الانتكاص له بزمن رفض فيه جميع “الآخرين” الهوية الوطنية. الدين أداة نجاة. إنه جماعتي التي تدافع عني في حين أن جميع “الآخرين” يهاجمونني. عندما يقف “الآخرون” عن الهجوم، ((قد)) نتمكن من بناء شيء معاً.. لكن للآن، أريد النجاة..

لا يمكن لي تخيل سوريا متنوعة، أفضل ما يمكنني تخيله هو “حق الآخر بالوجود” لكن لا بالتفاعل. فقد قرفنا “الآخرين” لعدوانيتهم الشديدة. أرى سوريا بجدارات غير مرئية بين طوائفها شبيهة بالسور الدمشقي(على منوال: هدول من جوا السور، وهدوليك من برا السور). لهم حاراتهم ولنا حاراتنا، لنا لفة حجابنا ولهم ثيابهم المبهرجة الفاقعة القبيحة الأقلوية.. الصفراء لربما..  لنا أنماطنا ولهم أنماطهم.. إن أتوا للشراء من محالنا نغشهم، وإن طلبوا عقاراتنا نرفض، وإن رغبوا بمصاهرتنا نردهم.. لكم دينكم ولنا دين..

أريد تخيل سوريا بسنّة، يحق لي، ويحق للسّنّة الدفاع عن مصالحهم ووجودهم وتخيل مشروعهم. أريد تخيل جدّتي بتنورة الآنسات المكسرة، ولفّة حجابها الشامية وثيابها المنسّقة الألوان، ماشية بهيبة في شوارع السوق وأرباب العمل يرحبون بها باحترام بالغ “أهلين بالحجة أم أحمد”، وتخيل عمّتي المسنة بجلابية منزل صيفية ونصف حجاب خارجة لشراء “نصف كيلو سكّر” مبررة “تكشفها” بأنها عجوز ولا أحد ينظر إليها وأن الله سيسامحها، وأريد تخيل جارتنا تأتي لنا بالطعام وتدعونا لتبادل الأطباق معها، أود تخيل حبّي لصديقتي القديمة من المدرسة، واستراق اللقاءات والمراسلات وأشعار الحب التي يكشفها الأهل أحياناً متغاضين عنها على الطريقة السنّية، “خليون يلاقو نصيبن” يقولون، ولا نعلم لربما أتزوجها وأبني معها أسرة متماسكة تعيش في مجتمع متماسك مأمون… أود أن أعزّي متوفياً لا أعرفه في الصباح، وأحضر مولداً نبوياً احتفالاً بولادة إبن أحدهم في المساء بخيمة منصوبة بين حجارة حمص السوداء العتيقة، وأن أهدي الطفل الوليد “نقوط ذهب”، أريد التبرع للجامع، وإن لم يتيسر الجامع، فللـ “جمعية” كما تقول العجائز عن أي جهة خيرية عاملة. كم أود لو أمشي بالشارع وأمضي طريقي كله أسلّم إما بالنظر أو بالنطق على أناس أعرفهم أو لا أعرفهم. أشتاق لمجتمعي الأهلي.. أشتاق لمسلسل “الفصول الأربعة” الذي يخاطب كل عائلة سُنّية مدينية من الطبقة المتوسطة في سوريا.. أشتاق لسوريا سنّية.. أما سوريا “الآخرين” فهي ما لا أقدر على قبوله.. هي ما لا يجب أن نقبله.

داعش والنصرة هي لا أحد، هي ما يقارب الـ5% من الشعب السوري بأكثر الأرقام تكارماً.. واليوم بعد تغريب وتهميش وتنفير وعزل أكثر من 90% من السّنّة، متدينيهم وعلمانيهم ووطنييهم، لربما! لربما سيتم تذكر أيام داعش والغبراء بعد عشرين سنة على أنها كانت “نزهة في الحديقة” و”أيام كانت سوريا جميلة”.

مراجعة كتاب ” روبسبيير: الفضيلة و الرعب “: عندما تتحدانا الثورة الفرنسية بأن نكمل الثورة

robespierre book

مقدمة عن روبسبيير:

ماكسيميليان روبسبيير, الملقّب “الذي لا يمكن إفساده”, لربما أهم شخصية في الثورة الفرنسية 1789. المنتمي إلى نادي اليعاقبة السياسي و هو النادي الذي مثّل الأفكار الجمهورية و اليسارية للثورة الفرنسية, و الذي زرع فعلياً أول بذرة يسارية و علمانية في التاريخ الحديث. روبسبيير, قائد اليعاقبة ولو أنه لا هو ولا اليعاقبة قالوا عنه قائداً.

إبن مدينة آراس الفرنسية, المولود لعائلة من الطبقة المتوسطة, أول ما ربي عليه كان ألا يتكبّر على من هو أقل منه طبقةً أو حالاً, ولا أن يتجاهل احترام من هو أعلى منه مرتبة أو علماً. معلّمه هو جان جاك روسو ولو أنه لم يقابله شخصياً. دينياً, تربّى تربية كاثوليكية, و ارتد عند الكبر ليغدو لادينياً ربوبياً. أتت الثورة الفرنسية, و كان من ممثلي برلمانها الأول, و بقي بها حتى موته إعداماً على يد أعدائه. خاض رحلته الثورية كلها مُنتَخَباً مدعوماً من زملائه المُنتَخبين و الأهم, من الشعب في الشارع. كان من المساهمين في إعلان حقوق الإنسان و المواطن, الديمقراطية المباشرة, إلغاء العبودية.. و غيرها.

يقول البعض هو أهم من أنقذ الثورة في وقت كانت به الثورة تخسر كلشيء, و يقول الآخرون هو أهم من لوّث يديه بالدماء في “عصر الرعب”, حتى أنه بات مكروهاً أكثر من الملك المُعدَم و زوجته ماري أنطوانيت. لكن في الحقيقة, كل ما سبق أيديولوجيا بحتة. كل ما قيل عن روبسبيير كان على علاقة وطيدة مع قائلها, أو مع الأزمان التي قيلت بها. فإن كان القائل ذو ميول ثورية أو يسارية تراه متعاطفاً مع روبسبيير(مثل ما سأفعل أنا في هذا المقال). و إن كان الشخص مُحافظاً, معادياً للثورات, أو لربما رَجعياً, بل حتى وسطياً, تراه سيجرّم روبسبييراً هو و الثورة الفرنسية كلها. و نفس الكلام يذهب على الأزمان. فأزمان الثورات تراها تولّد دفاعاً عن روبسبيير, و الأيام التي تميل لصد الثورات و الارتجاع اليميني (مثل اليوم) تراها تهاجم روبسبيير و تبتعد عنه ما استطاعت. يكفي هذا لمعلومات بيوغرافية, فهذه ليست بيوغرافيا. بل لربما يكون هناك مراجعة أخرى لكتابٍ عن بيوغرافيته لاحقاً.

الكتاب:

الكتاب بين أيدينا هو مجموعة من خُطبِه في البرلمانات الثورية المتتالية في فرنسا, و التي كانت تشغر دور السلطة التنفيذية بدلاً من الملك المخلوع لويس السادس عشر. الكتاب بتقديم و تحقيق الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجيك, و هو مُدافع آخر عن روبسبيير. هنا, سألخص اقتباسات من الكتاب كنت قد ترجمتها مع تعليقٍ لي عليها.

يُذكر أنه مهما اشتدت اللهجة, لم يكن روبسبيير يوماً دكتاتوراً, أي أنه لم يجبر أحداً على القبول بإجرائته, بل في الحقيقة, تم رفض العديد من إجرائته لعدم بلوغها عتبة القبول في التصويت عليها. كل ما فعله كان بموافقة برلمانية.

مقدمة جيجيك:

على غير عادته, لم يبتعد جيجيك عن الموضوع كثيراً, و بقي متماسكاً نسبياً طوال الثلاثين صفحة من المقدمة المكثّفة و المهمة.

يبدأ جيجيك برثاء للتراجع الديمقراطي العالمي البادئ في التسعينات. يلوم جيجيك الليبراليين و المحافظين على هذا. و من المنطقي لماركسي أن يطعن بالمحافظين, لكن لماذا الطعن بالليبراليين بالرغم من أنهم جيران اليساريين على الطيف السياسي؟

الليبراليون, هم أولئك الذين يريديون “ثورة بدون تَبِعات الثورة” (روبسبيير). يريدونها مثل القهوة بلا كافئين أو البيرة بلا كحول. يريدون التمتع بها دون المشاركة بها, دون “تلويث” يديهم بما قد تسفكه الثورة من دماء. للبعض منهم, الثورة الفرنسية هي مجرد حدثٌ شاذ في التاريخ, حدثٍ مأسوف عليه لدمويته التي “كان من الممكن تجنبها”. الليبرالي هنا مُجرد مستنزِفٍ أحمق للطاقة الثورية, إنه عالة على الثورة, و راكبٌ مجانيٌ على غمارها, إنه ذلك المستعد للوقوف في أي لحظة حتى في منتصف الثورة لما قد تحمله من “تطرف” أو”تبعات”.

الجذريون و الراديكاليون—كاليعاقبة—في المقابل هم أولئك الذين يريدون الثورة بكل تبعاتها, مهما كلّفهم ذلك الأمر, مهما كان صادماً, سوداوياً, دموياً. لا مشكلة لديهم مع القهوة بالكافئين, ولا مع البيرة بالكحول.. ولا مع الدماء, سواء دماؤهم أم دماء أعدائهم. كل الأثمان مفتوحة من أجل تحقيق الحرية و المساواة و الإخاء.

فعلياً, لو بحث المرء فيما يريد اليعاقبة لوجدهم نسبياً ليبراليين في السلم, لكن “إرهابيين” في الحرب. يقول روبسبيير في استعراض عن الفضيلة خلال الثورة:

“إذا كان المحرك الأساسي للحكومة الشعبية في وقت السلم هو الفضيلة, فإن المحرك الأساسي للحكومة الشعبية وقت الحرب هو الفضيلة و الرعب..”. يكمل روبسبيير ليبرر ما قاله: “.. الفضيلة, و التي بدونها يكون الرعب كارثياً. الرعب: و الذي بدونه تكون الفضيلة بلا قوة..”. ثم يستمر بتعريفه للرعب: “الرعب ما هو إلا عدالة قاسيةً مباشرة غير ليّنة.. إنه ليس مبدأً وطنياً بقدر ما هو استجابةٌ للحاجات الوطنية الأكثر إلحاحاً”. الحاجات هذه ناجمة عن كون فرنسا الثورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى على حرب مع كل أوروبا, و حليف فرنسا أي أمريكا رفض الانضمام لها, بالإضافة إلى حرب أهلية داخلية, و الجيش الثوري في حالٍ سيئة جداً من تجهيز و انشقاقات ملكية و غيرها… في ظروف مشابهة يتم تفعل الوضع اليعقوبي لإنقاذ الثورة.

 المثير في الأمر أن اليعاقبة كانوا المجموعة التي صوّتت في البرلمان ضد الحرب. اليعاقبة سلميون, و يناضلون من أجل الحفاظ على السلام, و الأهم يحاولون قدر الإمكان تجنب تفجير الحرب, أو بالنسبة لهم تفجير “الإرهاب”. فكانت إذاً حرباً لا يد لهم فيها, لكن “الإرهاب” الذي حصل بعدها رمى بكل عاتقه التاريخي عليهم. و لو قرأ المرء ماذا كان يريد روبسبيير, لوجدته يريد أن ينهي الثورة بخير, ثم ليبني بيتاً في الريف, ليتزوج و ليأتي بأخته للعيش معه, ليصوّت لحكومته التي تحافظ على السلم و الأخلاق و الفضيلة… لا شيء هنا يوحي على الرعب أو الراديكالية, بل هذه حالٌ أقرب إلى الليبرالية.

الثورة.. الثورة هي الحالة المبررة الوحيدة التي على المرء فيها أن يستخدم العنف إن اضطر, كل العنف. أن يستخدم الرعب إن اضطر, كل الرعب. لا يحق للملك أن يستخدم العنف لا لإن العنف سيء, بل لأن الملك سيء. العنف وسيلة لها وقتها, و استخدامها مبرر على يد أصحاب الحق.. و من أحق بالثوار!؟ أوَليس مشرعناً لهم استخدام العنف بعد كل ما فعلوه لتجنب العنف؟

في الثورة يجب أن ننزاح إلى اليسار, بعيداً عن اليمين, بعيداً عن الوسط, بل حتى بعيداً عن اليسار وسط. عندما يصل الفصيل الثوري إلى السلطة يغدو محافظاً.. محافظاً على مبادئ الثورة و على الثورة نفسها, إنه مؤتمنٌ عليها و على تحقيق مآربها. فليست مفاجأة عندما يختار هؤلاء اليعاقبة كلمات محافظة في خطابياتهم بيد أنها دائماً تُذكَر في سياق الثورة.

الثورة, هي الحالة الأكيدة التي يحق لك فيها أن تفكر بشكل مطلقي, إنه أبيضٌ أو أسود فقط. معي أم ضدي. مع الثورة أم ضدها. و ما اليعقوبية إلا نشوءاً طبيعياً لهذه الحالة. صوت الشعب هو صوت الله. و لتدع العدالة تُنجَز حتى ولو أفنيَ العالم. لتكن الثورة زلزالاً يرض الأرض رضّاً, بل يوم قيامةٍ يُفزع الملوك و الطغاة و يصعقهم صعقاً. “العفو هو معاقبة أعداء الإنسانية. مسامحتهم هي الوحشية بعينها” (روبسبيير). الموت ليس هدفاً, إنه “أو”. إما النصر بالثورة “أو” الموت, إما الحرية و المساواة و الإخاء “أو” الموت. الموت ليس شيئاً نخافه, و ليس شيئاً نريده, و ندرك أن الثورة تأكل أبناءها, إن هدفنا إقامة دولة العدالة على الأرض, و بعدها ليأتِ الموت متى شاء.

“خوفك من أن تكون مذنباً [بحق الثورة] لوحده يجعلك مذنباً” (روبسبيير). لا يوجد متفرجين بريئين, الخيانة العظمى هي تجاهلك للثورة, ظنك أن هذا النزاع أمامك لا يعنيك! البراءة نفسها هنا خائنة. أنت لا تستيقظ كل يومٍ حياً, بل ميّتاً, و عليك أن تقوم بمساهمة ما للثورة من أجل أن تحيا. بقاؤك ميتاً هو جريمة.

مما سبق, فإن دائرة أعداء اليعاقبة موسّعة, هناك العدو الطبيعي (الملكيين أو الدكتاتوريين), و الحياديين, و المغيبين الذين لا يقومون بشيء, و الوسطيين المطالبين بـ”إرخاء” العدالة قليلاً و كبح جماح الثورة, و الأطراف الثالثة التي تريد شق الصف—كالإسلاميين في الثورة السورية—, و الأطراف التي تريد تحويل الخط الثوري إلى أجندات أخرى جانبية—كالنسويات في الثورة السورية—, و كل من ساهم مساهمةً ضرّت الثورة بدلاً من أن تفيدها و تقترب من أهدافها. هؤلاء حظوا بهجوم و عقوبة من قبل اليعاقبة, وصل بعضها حد الإعدام بالمقصلة.

الحالة اليعقوبية تمثّل أيضاً قطيعة مطلقة مع الماضي. مع ماضي الدكتاتور, أو الملك, أو ذلك الطاغية. نعم, تاريخنا بحضور الطاغية كان تاريخاً طاغٍ, فليُحرق إذن و لينسى أبداً. نحن نولد من جديد, ليس كنموذج لماضي الطغاة, بل لنا ماضٍ آخر أكثر نبلاً, حالة متعالية أكثر, مثالوية أكثر, غنية أكثر, أكثر تمثيلاً لنا, يمكن الدفاع عنها و يمكنها الدفاع عنا بشكل أقوى, فليكونوا الرومان إذن للفرنسيين. فلتكن كل ثورة على قطيعةٍ مع ماضيها الطاغي, و لتبحث عن ماضٍ آخر لها. لأن عبء التاريخ يقع على الثورة, و عبء المستقبل أيضاً يقع على الثورة. الثورة هي فرصتك للتخلص من طغيان الماضي, و طغيان العادات السيئة مهما كانت, و هي فرصتك لمسكك زمام مستقبلك. إنها فرصتك للتحرر, و مفروض عليك أن تأخذ الفرصة. من لا يأخذ الفرصة هذه يُعاقب, فهو يشد الثورة نحو الفشل. إن التاريخ و المستقبل ليس حتمياً, القول بحتميته لربما يجعل قائله خائناً خيانة ناعمة أو خشنة.

و ليتساءل المرء, ما هي التسوية بين المذاهب الأخلاقية التي تتخذها الثورة اليعقوبية إذن؟ هل هي أخلاقيات الفضيلة؟ أخلاقيات الواجب؟ أخلاقيات المنفعة؟ أم الأخلاقيات البراغماتية؟

الحالة المطلقية الطهرانية التي يتخذها روبسبيير قطعاً تعطيها بعدا واجباتياً كانطياً, أنت يجب أن تخرج في الثورة. لكن أيضاً هي أخلاق فضيلة كما هو واضحٌ في أغلب الخطابات اليعقوبية. إنها أخلاقيات منفعة, فكل من لا ينفع الثورة يتم التخلص منه, و كل ما ينفع الثورة يُبنى عليه. و الحالة الرومانسية الثورية هي التي مثّلت برأيي البراغماتية. لربما الثورة هي حل المعضلات الأخلاقية و مكان توحيدها, فما من مكان في التاريخ وجدت به توحيداً للفلسفات الأخلاقية أكثر من هنا.

الغاية من الثورة إذن هي غاية كانطية. و الوسائل لتحقيقها هي وسائل نفعية. و افتراض وجود حرية الإرادة هو افتراض براغماتي. بهذا تتحقق المعادلة اليعقوبية.

يُنهِي جيجيك المقدمة بالخطوات (أو اللحظات) التي تمر بها الحالة الثورية اليعقوبية كما تمثلت عدة مرات عبر التاريخ, مقتبساً صديقه الفيلسوف آلان بادييو:

  1. الطوعية: الإيمان بأن المرء يستطيع تحريك جبال, متجاهلاً العقبات و القوانين
  2. الرعب (أو الإرهاب): رغبة مطلقة في سحق أعداء الثورة
  3. العدالة المساواتية: تطبيق مباشر و قاسٍ بدون مراعاة للسياق أو للعوامل التي قد تقترح تطبيقاً “تدريجياً”.
  4. الثقة بالشعب: من خصائص الحكومة الشعبية أن تثق ثقة حميدة بالشعب, و أن تكون قاسية على نفسها بالنقد و تمحيص الفاسدين. من الخطأ فقدان الثقة بقدرة الشعب على الإنجاز إن أُعطيَ الفرصة المناسبة.

اقتباسات من خطابات روبسبيير:

من خطابه في الحقوق و الواجبات المختلفة خلال الثورة:

” .. الحرية مؤلفة من إطاعة القوانين المعتنقة طوعاً.. “

” .. ليست الضريبة ما يجعلنا مواطنين.. بل ما يساهم به المرء للمصروف العام للدولة تبعاً لقدرته.. “

تالياً, سيتكلم روبسبيير بلهجة مطلقية واجباتية كانطية جداً, توحي بتأثره بجان جاك روسو. ليس لمن يخدم الشعب منّة على الشعب. خدمتك للشعب بأفضل ما يمكنك هي واجبٌ متوقعٌ منك, و أي شيء غيره هو تقصير.

” .. 26 مليون شخص وضعوا كل ثقل أقدارهم بين أيديكم [أيها البرلمانيون], أولَن يقال أن إصلاح الكثير من المفاسد و القوانين سيسدي معروفاً كبيراً للناس, كثيراً كفاية لجعل الاستمرار في الإصلاح غير ضروري؟ لا! كل الخير الذي قمتم به كان واجباً صرفاً. إغفال أي خير يمكنكم فعله هو خرق للثقة, الضرر الذي ستقومون به عندها هو جريمة لوطنٍ جريح و إنسانية جريحة.. إن لم تفعل كلشيء من أجل الحرية, فإنك لم تفعل شيئاً أبداً.. لا تقوموا بأي خطأ: لا يغرّنكم المديح و الاحتفال.. الأجيال القادمة سوف تقارن عظمة واجباتكم و كثرة مواردكم مع أخطائكم الجوهرية, و سوف يقولون (كان بإمكانهم جعل الإنسان سعيداً و حراً, لكنهم لم يريدوا ذلك, لم يستحقوا تلك المسؤولية). “

” .. الأساس الثابت الوحيد للحرية هو الأخلاق.”

من خطابه في الرد على دعاة الحرب المسلحة (بما فيها الحرب في سبيل نشر الثورة):

” الاستبداد يفسد عقول البشر لدرجة يجعلهم بها يحبونه, لدرجة جعل الحرية تبدو مخيفة و مثيرة للشك عند أول نظرة. “

بالرغم من كل التطرف اليعقوبي الثوري, لماذا تُعتبر الحرب بالنسبة لهم مرفوضة؟ لأنها تشتت تركيز الشعب و الثوار عن الأعداء و التقصير في الداخل. يقول روبسبيير:

” .. يريدون دفع أنفسهم في حرب خارجية, كما لو أن قدح شرارة الحرب سيأتي بنا للحياة, أو أن الحرية و النظام سينشؤون لوحدهم في النهاية من بين الارتباك العام الذي سيحصل. إنهم يرتكبون أكثر الأخطاء كارثية, فهم لا يميزون بين الظروف, و يخلطون الأفكار حتى و هي متمايزة عن بعضها.

.. الحرب.. هي أزمة يمكنها أن تؤدي لموت الجسم السياسي الذي بنيناه. حرب كهذه يمكنها فقط أن ترسل الرأي العام للحاق برائحة زائفة, لتحوّل المخاوف الشعبية المبررة عن الطريق الصحيح, و تحبط الورطة التي وقع بها أعداء الحرية.

.. الشعب في حرب خارجية, مُشتتاً تركيزه في الأحداث العسكرية الخارجية بدلاً من السياسية الداخلية المؤثرة على حريته مباشرة, سيكون أقل ميولاً لأخذ مناورات المتآمرين ضد حكومته بجدّية, و سينتبه بشكل أقل لضعف أو فساد ممثليه في البرلمان. “

” الحرب جيدة للضباط العسكريين الطموحين, للمقامرين الذين يضاربون على هذا النوع من الحوادث, للوزراء, الذين سيحظون بحجابٍ مقدسٍ لا يمكن أن يُرى من خلاله ما يفعلون, إنها جيدة للمحاكم, جيدة للسلطة التنفيذية التي ستعزز سلطتها و شعبيتها.. لكنها ليست جيدة للناس.. “

الثورة المضادة أمرٌ مأخوذ بعين الاعتبار بالنسبة لليعاقبة و لهم ارتياب طبيعيٌ اتجاهه و ليس أكثر ما يخيفهم, إن نقطة ضعفهم و خوفهم الأكبر يكمن في فقدان عصبة قاعدتهم الثورية, و ذلك بتصنيم الوجوه “الثورية” و عبادتها, بدلاً من الالتزام بالفكرة المجردة للثورة. فبمجرد ارتكاب الصنم خطأ ما, أو الانشقاق للعدو, تنهار المعنويات أيما انهيار, و ذلك حصل في الثورة الفرنسية أكثر من مرة. و يا لها من ذكرى تعيد نفسها اليوم.

” ليست الثورة المضادة ما يخيفني, بل تقدم المبادئ الزائفة, و تصنيم الأشخاص, و فقدان الروح الجماعية. “

من خطابه عن الثروة و طغيان العادة:

 ” [أيها البرلمانيون] حتماً أنتم لستم هنا للحاق بعادات الطغاة المبتذلة على خطى آبائكم, بل أنتم هنا لتبدأوا سيرة جديدة لم يسبقكم أحدٌ بها. عليكم على الأقل أن تضعوا كل القوانين المسنونة من قبل الملكية المستبدة و النبلاء و الكنيسة و الأرسقراطيين تحت الفحص و التمحيص الدقيق. “

” الطعام الضروري للانسان هو مقدس بمقدار الحياة نفسها. كلشيء أساسي للحياة و بقائها هو ملكية عامة لكل المجتمع. فقط الفائض عن الحاجة يمكن أن يكون ملكية خاصة و قابلاً للاتجار به. “

” .. هذه هي العادة, التي نعدها كأكثر الاعتقادات تعسفاً و عشوائية, بل و أحياناً كأكثر المؤسسات اختلالاً, و لكنها [مع الأسف] التي نتّخذها كأساليب مطلقة للوصول إلى الحق أو الباطل, العدل أو الظلم. حتّى أنه لا يخطر على بالنا أنها مرتبطة حتماً مع الإجحافات التي أطعمنا إياها الاستبداد.. كل ما يشير إلى عكس العادة يبدو لنا خارجاً عن القانون, حتى يُهيأ لنا أن الطبيعة نفسها تبدو ضد الطبيعة. “

من خطابه عن محاكمة الملك و المطالبة بإعدامه و الرد على القائلين بعفوه من الموت:

” ملك مخلوع, في جمهورية, يصلح لشيئين فقط: إما أن يزعج سلام الوطن و يهدد الحرية, أو أن يؤدي إلى كلا النتيجتين معاً. “

” .. الشعب لا يَحكُم بذات الطريقة التي تحكُم بها محاكم القانون, إنه لا يعطي أحكاماً, بل يرسل صواعقاً. إنه لا يدين ملوكاً, بل يرمي بهم إلى الهاوية. و هذا النوع من العدالة قيمته تماماً مثل قيمة عدالة المحكمة..”

” عندما يباد ملك على يد الشعب, من يملك الحق بأن يبعثه من جديد و جعله ذريعة جديدة للقلاقل و الثورة المضادة و كل ما يترتيب على ذلك من آثار!؟ “.

السابق كان اقتباساً مثير للاهتمام. أليست روسيا اليوم, من البلدان الإلهة, التي تبعث الموتى بإذنها؟ ألم تحيي بشاراً الأسد بعد موته؟

“مهما حصل, فإن معاقبة الملك سوف تكون الآن فقط جيدة إن حملت الشكل الرسمي لانتقام شعبي “

لا انتقاماً دولياً, ولا دبلوماسياً, و لا ذلك الانتقام الحاصل في لاهاي, بل انتقاماً يتشفى به غليل الشعب إلى الأبد.

” أنا شخصياً أتقزز من حكم الإعدام المسموح في قوانينكم, و بالنسبة للملك فأنا لا أحمل حباً ولا كرهاً له, أنا فقط أكره جرائمه. لقد طالبت شخصياً بنبذ عقوبة الإعدام في البرلمان.. نعم, حكم الإعدام بشكل عام هو جريمة, و لهذا السبب لوحده لا يمكن تبرير الإعدام إلا إن كان ضرورياً من أجل صالح الأفراد أو الجسم الاجتماعي.. أقول هذه الحقيقة مع الأسف, على الملك أن يموت من أجل أن يعيش الوطن. “

” .. بالنسبة للملك, فأطالب البرلمان بإعلانه من هذه اللحظة خائناً للأمة الفرنسية, و مجرماً بحق الإنسانية, أطالب بإعطاء مثالٍ عظيمٍ للعالم عند ذات المكان الذي فقد فيه شهداء الحرية الأسخياء أرواحهم في العاشر من آب. أطالب بتخليد هذا الحدث الذي لا يُنسى بنصب تذكاري ينمّي بقلوب الناس حقوقهم و اشمئزازاً من الطغاة, و ينمّي بعقول الطغاة ارتعاباً و رهبةً من عدالة الشعب. “

من خطابه الذي يطرح به مسودة تعديل لإعلان حقوق الإنسان و المواطن:

المادة الخامسة: على المجتمع توفير الإعاشة اللازمة لكل أفراده, إما بتحصيل العمل لهم, أو بضمان وسائل البقاء لأولئك الذين لا يستطيعون العمل.

المادة السادسة: الدعم الأساسي لأولئك الذين لا يملكون ما يكفيهم, هو دين على أولئك الذين يملكون فائضاً..

المادة الثامنة: على المجتمع المساعدة بتنمية العقل العام بكل ما يستطيع من قوة, و جعل التعليم ميسراً للجميع.

المادة الرابعة و العشرون: عندما تنتهك الحكومة حقوق الناس, فالثورة تكون للناس كلهم و لكل شريحة منهم الحق الأكثر قداسة و الذي لا غنىً عنه.

المادة الثالثة و الثلاثون: الجرائم المرتكبة من قبل ممثلي الشعب يجب أن تعاقب بسرعة و بشدة..

المادة الرابعة و الثلاثون: الشعب يملك الحق بمعرفة كل عمليات و تحركات الممثلين عنهم..

المادة الخامسة و الثلاثون: البشر من كل البلدان أخوة, و على الشعوب المختلفة أن تساعد بعضها البعض بأقصى ما تستطيع كما لو أنهم مواطنون من نفس البلد.

المادة السادسة و الثلاثون: ذلك الذي يظلم شعباً ما يعلن نفسه عدو جميع الشعوب.

المادة السابعة و الثلاثون: يجب ملاحقة أولئك الذين يعلنون الحرب على شعبٍ ما لمنعه من الحرية و إبطال حقوق الإنسان عنه, و ذلك لا باعتبارهم مجرمين عاديين, بل كقتلة و عصابات متمردة.

المادة الثامنة و الثلاثون: الملوك, الأرستقراطيين, المستبدين, مهماً كانوا, هم عبيد في ثورة ضد القوة الحاكمة على الأرض التي هي العرق البشري, و ضد مشرّع الكون الذي هو الطبيعة. 

من خطاب يتحدث فيه عن عالمية الثورة و يبدي به نصائح للثوار:

أحد العناصر التي نمذج الثوار الفرنسيون ثورتهم عليها هي كون الثورة إنسانية عالمية كوزموبوليتالية موجهة لكل البشر. حقاً, لقد أعطى البرلمان الثوري جنسياتٍ فخرية لتوماس بين من أمريكا و الفيلسوف الأخلاقي البريطاني جريمي بينثام و غيرهم و كان الأخيرون ضيوفاً و مساجلين في البرلمان الثوري نفسه. عدّ الفرنسيون أنفسهم بكفاحهم في فرنسا ضمن كفاح إنساني شامل.

” آهٍ! من منا لا يشعر بأن كل مداركه قد توسعت, من منا لا يشعر بأنه ارتفع فوق الإنسانية نفسها عندما يتأمل أننا لا نحارب من أجل شعب واحد, بل من أجل الكون, من أجل كل من يعيش اليوم, بل أيضاً من أجل كل من سوف يعيش يوماً. “

” [أيها البرلمانيون], القوة يمكن أن تخلع عرشاً, الحكمة وحدها هي التي تؤسس جمهورية. فككوا مكائد أعدائنا التي لا تنتهي, كونوا ثوريين و سياسيين, مرعبين للأشرار و معاونين للضعفاء. تجنبوا كلاً من الاعتدال القاسي و مغالاة الوطنيين الزائفين. استحقوا الشعب الذي تمثلوه. الشعب يكره الغلو, لا يريد أن يُخدع, ولا أن يُصان, إنه يريد أن يُدافع عنه و يستحق كرامته. “

الوطنيون الزائفون الغلاة, هم قومجيو و ممانعو اليوم, يعرّفون أنفسهم على اليسار و مع الثورة, لكنهم من أسوء من أضر باليسار, و من أسوء من أضر بالثورة, و من أفظع من فظّع بالإنسانية. ثرثارون على حساب أفعال العدو, لا ترى أفعالهم إلا على شعوبهم. رحم الله من خلّص الشعب الفرنسي منهم.

من خطابه عن مبادئ الحكومة الثورية:

“النجاحات ترسل الأرواح الضعيفة إلى النوم, و تحفز الأرواح القوية للبقاء. دعونا نترك لأوروبا و التاريخ التهليل بمعجزات مدينة طولون [التي حررت حديثاً من يد الإنكليز], بينما نهيئ نحن لانتصارات جديدة للحرية. “

” وظيفة الحكومة هي توجيه القوى المعنوية و الجسدية الوطنية نحو هدفٍ هي تحدده. وظيفة الحكومة الدستورية هو المحافظة على الجمهورية. وظيفة الحكومة الثورية هو تأسيس الجمهورية”

” الحكومة الثورية تَدين للمواطنين الأخيار بحماية وطنية كاملة, و لا تدين بشيء لأعداء الشعب سوى الموت. “

الحِكمُ و الأمثال التي توجه الشارع هي أمرٌ لا يجب تجاهله, فإن انتبه المرء, سوف يجد أن الحكم السائدة متناقضة و مربكة للجميع سواءاً شعروا أم لم يشعروا. فمثلاً, إن ترّوى المرء قليلاً يقال ” في التأني السلامة وفي العجلة الندامة”, و إن تعجّل قليلاً يقال “اضرب الحديد و هو ساخن”, و إن كان وسطاً يقال “خير الأمور أوسطها”. الحكمة إذن في أغلب الأحيان لا معنى مميزاً لها و هناك حكمة مضادة لها في مكان ما, و الحكم و الأمثال هي فعلياً فلسفة الشارع, و من الخطورة تركها دون تدقيق و تأصيل و رفض و تأييد. يقول روبسبيير:

” إنهم قتلة جبناء أولئك الذين, من أجل قطع حلق الجمهورية في مهدها بدون خطر, يحاولون خنقها بنشر الحِكَمِ الضبابية التي بتطبيقها يبرّؤون أنفسهم. “

يميز روبسبيير بين اللينين—ما قد يكونون اليوم هم الليبراليون— و المفرطين. و في حوسبة أخلاقية نفعية بحتة, أي تقييم النتائج لا النوايا, يعلن روبسبيير أن كلا الحالتين تعاديان الثورة بإخطائهم أهداف الثورة, ولو أن روبسبيير يتعاطف أكثر قليلاً مع الإفراط الثوري. يُذكر أن اليعاقبة, على تطرفهم, لم يكونوا الفصيل الأكثر تطرفاً في الثورة الفرنسية, بل هناك الهيربرتيون و الغاضبون و غيرهم و هم متطرفون أكثر, لربما يتمثّلون اليوم بالأناركيين و ما شابههم. يقول:

” على الحكومة الثورية أن تبحر بين صخرتين خطيرتين, بين الضعف  و التهور, أو اللين و الإفراط. اللين هو للاعتدال كما العنّة هي للعفّة. و الإفراط يمثّل الحيوية و النشاط كما النَفخَة تمثّل الصحة و العافية.. كلا النقيضين يوديان لنفس النتيجة. سواءاً كان فوق الهدف, أو تحت الهدف, فبكلا الحالتين قد أُخطِئ الهدف. “

” [أيها البرلمانيون], تأسيس الجمهورية الفرنسية ليس لعبة أطفال. لا يمكن أن يكون نتاج نزوة أو لا مبالاة, و لا صدفة سعيدة متمخضة عن صراع بين كل الإدّعاءات الفردية و العناصر الثورية. الحكمة, بقدر القوة, هي التي أشرفت على تكوين الكون. بفرضكم على بعض الأفراد منكم أن يقوموا بالوظيفة الصعبة التي تطلب منهم حراسة مصير الوطن دون كيادة, فإنكم تفرضون على أنفسكم أيضاً الواجب بدعمهم بكل قوتكم و ثقتكم. “

من خطابه في مبادئ الأخلاق السياسية المعنية بالشأن الداخلي:

” في وطننا, نريد أن نستبدل الأخلاق بدلاً من الأنانية, النزاهة بدلاً من الشرف, المبادئ بدلاً من العادات, الواجبات بدلاً من الانقياد, حكم العقل بدلاً من طغيان الموضة, احتقار الرذائل بدلاً من احتقار المصائب, الاعتزاز بدلاً من الوقاحة, عظمة الروح بدلاً من الغرور, حب المجد بدلاً من حب المال, الجدارة بدلاً من الدسيسة, الحقيقة بدلاً من التألق, سحر السعادة بدلاً من ملل الرفاهية, عظمة شخصٍ بدلاً من انحطاط أشخاصٍ عظام, شعب سعيد عظيم قوي بدلاً من شعب تافه تعيس. “

” أي شيء يودي لإثارة حب الوطن و تطهير الأخلاق و تعالي الأرواح و توجيه عواطف القلب نحو الصالح العام, يجب أن تؤسسوه أو تعتنقوه [أيها البرلمانيون]. أي شيء يودي إلى وضع ما سبق تحت مذلات الذات الشخصية و إثارة الهرج نحو الأشياء الصغيرة و الاحتقار للأشياء العظيمة, يجب أن ترفضوه و تقمعوه. “

” الضعف و الرذائل و الإجحافات هي الطريق نحو الملكية. وعادة ما نُقاد إلى أفكار خاطئة و مشاعر جبانة بدافع من ثقل عاداتنا القديمة و أيضاً ضعف الإنسان الذي لا يمكن التخلص منه. علينا أن ندافع عن أنفسنا من الطاقة المفرطة أقل من دفاعنا عن الليونة المفرطة. “

” الحماسة المفرطة ليست أكثر العقبات خطورة التي علينا تجنبها, بل بالأحرى علينا تجنب الكسل و الكلل الناتج عن الرفاه, و تجنب الخوف من شجاعتنا. “

” الحكمة الأولى لتوجيه سياستكم يجب أن تكون أن الشعب يُقاد بالعقل, و أعداء الشعب يُقادون بالرعب. “

” حكومة الثورة هي طغيان الحرية على الاستبداد. و هل القهر جُعل فقط لحماية الجريمة؟ ألم يقدّر للصواعق أن تضرب رؤوس المختالين يوماً؟ “

” إلى متى سوف يقال عن غضب الطغاة عدالةً, و عن عدالة الشعب بربرية أو تمرداً؟ “

“معاقبة أعداء الإنسانية هو الرأفة بعينها, و مسامحتهم هي البربرية بعينها. قسوة الطغاة تَعُدُّ القسوة نفسها كمبدئها الموجه الوحيد. أما القسوة التي توجّه الحكومة الثورية فأساسها الإحسان. “

” .. لتسقط عليه لعنة شريرة من يتجرأ أن يدير باتجاه الشعبِ الرعبَ الذي يجب أن يحظى به أعداء الشعب فقط! “

” ليفنَ ذلك الشرير الذي يتجرأ أن يسيء لاسم الحرية المقدس أو الأسلحة القوية التي ائتمنته الحرية بها, كي يُلحِق الموت و الثُكلى على قلوب الوطنيين! هذه الإساءة حصلت [من قبل الحكومة الثورية], لا يمكن إنكار ذلك. و قد تم تضخيمها بدون شك من قبل الأرستقراطية. لكن حتى إن وُجِد هناك على مدى الجمهورية كلها شخصٌ فاضلٌ واحدٌ فقط لاحقته الأيادي المعادية للجمهورية[المدسوسة بها], فإن من واجب الحكومة البحث عنه دون كيادة و الانتقام له بالشكل المناسب. “

” كم من التافه اعتبار بعض الانتصارات التي انتصر بها الوطنيون نهايةً لكل الأخطار! ألقوا نظرة لوضعنا الحقيقي و سوف تشعرون أن اليقظة و الطاقة و النشاط هم أهم لكم الآن من أي وقتٍ مضى. “

أيضاً هنا نشهد حوكمة أخلاقية نفعية:

” احكموا عليهم, لا بفارق لهجتهم و كلماتهم و لسانهم, بل بتماثل نتائجهم.”

الإلحاد خطيئة لا لأسباب فلسفية, بل لإنه دعوة من دعوات الموضة التي بدأها الأرستقراطيون, إنه طريق يحابي الملكيين, و لم يكن يوماً قضية من قضايا الثورة الأساسية. باختصار, الإلحاد أرستقراطي, مثله مثل المسيحية, لهذا يجب نبذه. يقول:

” الدعوة للإلحاد هي مجرد وسيلة لنشر الخزعبلات و اتهام الفلسفة, و إعلان الحرب على الإله هو مجرد انحراف عن الطريق لصالح الملكية. “

قبس من خطابه الأخير قبل الانقلاب عليه و إعدامه:

” لكن أؤكد لكم, هناك أرواح نقية و تشعر, إنه يوجد, ذلك الشغف الرقراق الحاضر الذي لا يمكن مقاومته, إنه يوجد, ذلك العذاب و تلك البهجة في القلوب الواسعة الكبيرة, و ذلك الاشمئزاز العميق من الطغيان, و ذلك التعاطف الحماسي للمظلومين, و ذلك الحب المقدس للوطن, و ذلك الحب الأكثر قداسة و سمواً للإنسانية, و الذي دونه تغدو الثورة العظيمة مجرد جريمة مزعجة تدّمر جريمة أخرى. إنه يوجد, ذلك الطُموحُ الكريم لتأسيس أول جمهورية في العالم هنا على هذه الأرض. و تلك الأنانية [الحميدة] التي يملكها بشرٌ مستقيمون و التي تجد بهجة سماوية في راحة الضمير و في المنظر الآسر المتمثل بسعادة الناس, يمكنكم أن تشعروا بتلك البهجة في هذه اللحظة تشتعل في أخلادكم, أنا أشعر بها داخلي. “

” أولئك الذين يشجبون القوة الأخلاقية للعقل معتبرين إياها جريمة هم يسعون فقط إلى إحياء الطغيان “

بعد هذا الخطاب انقلب عليه البرلمان و أعدِمَ بعد إلقائه بيومين. اصطُلِح على من انقلب عليه بـ”الرجعيين”, و على كامل الانقلاب بـ”الارتجاع الثرمادوري” نظراً لوقوعه ضمن شهر ثيرمادور حسب التقويم الفرنسي الثوري. صحيح أن الثورة بعدها لربما قلّ سفكها للدماء, لكنها دخلت في مرحلة عُرِفت بالفساد و كادت للحظة أن تسلّم الثورة للملكيين لولا أن أتى انقلاب نابليون بونابارت, الذي أعلن نفسه لاحقاً إمبراطوراً. في كلا الحالتين, انتهى الأمر باختفاء الجمهورية, و سفك ملايين الأرواح في حروب نابليون.

الثورة السورية فشلت, ماذا علينا أن نفعل الآن؟ لنحضّر للثورة المقبلة

توصيف

قامت الثورة الشعبية السورية بتعبئة مذهلة, تُقدر على الأقل بـ75% من الشعب السوري, أي 75% من السوريين شاركوا بمظاهرة أو عمل ثوري مرة على الأقل. و لا زلت أؤمن أن الـ25% الباقية كانت لتشارك باكتمال شروط معينة لم تستطع الثورة تحقيقها مع الأسف. نسبة كبيرة مثل 75% تعني أن هناك تحالفات اجتماعية جديدة كانت قد حصلت, و أن عقداً اجتماعياً جديداً كان على وشك التأسيس. و بينما كان الثوار لا ينظرون أبعد من أنفهم, كان النظام مدركاً أن أي فرصة له بالنجاح أمام هذا العدد الهائل تحتاج إلى عمل طويل الأمد: لتكن الخطوة الأولى أن تنزل النسبة 75% إلى 74%, أو حتى أن تبقى 75% بدل أن تزيد, و ذلك مهما كلف الأمر جهداً و وقتاً. الاستراتيجية الأهم كانت بضرب التحالفات تلك و تفتيت الائتلاف الثوري و تشجيع حركات شق الصف و الفئوية و التصنيف. ليُقتل إذن دعاة التعددية و الوطنية و المجتمع المدني الموحد و التحالف الطبقي, و مقابل كل معتقل منهم لـ”يتحرر” و “يُعفى عن” عشرة إسلاميين جهّلٌ بأهمية اللحظة الجامعة التي خرجت بها الثورة. نعم, لتُشق الصفوف, كان أهم و لربما أول شق للصف على أيدي الإسلامي ذو اللحية ذاك, “ليُنزل بعلم الثورة.. و لتُرفع بدلاً عنه مئة راية و راية”, تحولت عندها الثورة من أمل بالمستقبل المُشرِق إلى “سبعٍ عجاف نحاف”, و تحولت رموزها المجردة إلى رموز مركبة, و أخلاقياتها إلى رذائلها. فئة هنا, فئة هناك, و غدونا ملوك الفئات, ملوك الطوائف, ملوك الأخطاء الفردية. المجرم الأكبر و الخائن الأعظم إذن هو من سولت له نفسه شق الصف الثوري, و رفع راية غير الراية الثورية بل و الارتداد عن أفكارها أيضاً… و مثله مثل النظام, قام بفسخ العقد الاجتماعي الجديد الذي كادت الثورة أن تحققه.

رويداً رويداً, و مع التفسخ  و الانحسار, بات للمجتمع السوري اليوم ستة أنواع من السوريين:

الأول, هناك رعيل ثوري أول من أبناء الشارع السوري كان قد قدح ثورة سورية لا لون لها احتراماً لباقي الألوان, فأتى آخرون ليلونوها بما تشتهيه أنفسهم. و كان قد نجى من فلاتر أمنية و مجازر و مآسي على طول سبع سنين, فعلياً كان العالم كله قد حارب هذا التجمع, هو علماني (بمعنى أن لا لوناً دينياً أو طائفياً له, بل وطنياً مدنياً) و معادٍ للنظام بآن واحد, لا النظام يحبه ولا الإسلاميون يحبونه و له تاريخ في مقارعة كليهما, و كل من يتحالف مع أولئك يكرهونه و يريدون تحييده. هذا التجمع إذن كان قد افتُرس عبر الزمن في عالم متوحش, و بات اليوم نادر الوجود و على وشك الانقراض, إلا أن الباقين منه لا يزالون على علاقة وثيقة و تكاتف وجداني قويٍ فيما بينهم, و يملكون روحاً شبابيةً نمت تحت كنف الثورة و لا شيء سوى الثورة.. إنهم أبناء الثورة الفعليين و المُباشرين. بعضهم انكسر و جلس في زاوية مظلمة خائر القوى, لكن من بقي فاعلاً منهم قد شعّ طاقةً كالشمس لا تنضب, و غدى صاحب انتاجية مذهلة جعلته في مراكز أكاديمية و محلية متقدمة.

الثاني, هناك السوري المعارض, القاطن على الأغلب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام, لكنه في نفس الوقت سوريٌ سئم تكاليف الحياة, و دخول الغرباء, و الفلتان الأمني, و مراهقات الفصائل, و فراغ الجيب, و خِرَقَ المخيمات. هو ليس مؤيدٌ ولا محايد, لكنه ربما في مرحلة تحضيرية لهما. أواصر مجتمعه الذي تغلب عليه طابع القرية قوية لكنها استُنزفت يوماً بعد يوم حد الإرهاق. فإن دخل النظام, لا هو رش الأرز و لا هو حرق نفسه قهراً.

الثالث, هناك السوري الذي تعاطف مع الثورة يوماً من الأيام, و اليوم مغلوباً على أمره انزاح رويداً رويداً تحت قصف البروباغاندا الحكومية—و انحطاط الحالة الثورية—إما ليكون مع النظام, أو لحالة حيادية تميل نحو النظام. يعيش لربما في وهم تكاتف اجتماعي مع من هم حوله و شبهه, لكنه لا يدرك هشاشة مجتمعه الحالي الجديد. يرى نفسه الوريث و المحافظ الشرعي عما تبقى من أطلال المدن السورية, لكن دون أي فعالية في ذلك.

الرابع, هناك السوري في المهجر, أهم مشكلة قد يعانيها هؤلاء هي مع الانتماء لسوريا أساساً, و مع نمو أول جيل خارج سوريا, سرعان ما يتلونون بألوان بلدهم المضيف مطلقاً (أو لا يندمجون أبداً) و بالكاد يدركون ما هي الحالة الوطنية في بلدهم الأم سوريا. و كعادة أي مجتمع مهاجر, فهؤلاء يعانون من مشاكل في التكاتف و الصلة الاجتماعية.

الخامس, هناك السوري المؤيد منذ البداية. و على انحطاطه الأخلاقي, إلا أن مجتمعه متماسك نسبياً.

السادس, و هناك الضفدع, الخائن الخسيس الحقير السافل المستسلم المنهزم الساقط, الذي رفع علم الثورة يوماً ثم سلّم للنظام لاحقاً و عمل لديه. إنه مبدّل الصفوف و المنقلب من الثورة نحو النظام. هذا الكائن التحت إنساني, يستحق العقوبات الأكثر شناعة و بدائية على الإطلاق. و الضفادع يتضمانون مع بعضهم, و لا يوجد لهم من صديق سوى بعضهم البعض.

أمام هذا الواقع الاجتماعي و السياسي علينا مخاطبة كل نوع على حدى, و معرفة أن لكل نوعٍ دوره الوظيفي في المرحلة المقبلة: مرحلة النشاط السري. إن فشل ثورة مثل ثورتنا عادة ما يؤدي إلى تراجع الأطر الثورية نحو النشاط السري, النشاط الذي يجب أن يكون الأداة المُجَهِزَة لثورة مقبلة, على أمل أن يكون هذا النشاط بقيادة الرعيل الثوري الأول القديم و قادراً على التغلغل في المجتمع السوري سواءاً أشعر بذلك السوريون أم لم يشعروا. و من الحكمة تحديد المدى الزمني الذي نحتاجه لتحقيق أهدافنا الثورية, وهذا يتحدد تبعاً لعدة عوامل, أهمها تجدد الجيل عدداً, و تجدد النفوس و السايكولوجيات. هذه الحسبة, و التي لا مكان هنا للخوض بتفاصيلها (لكن باستطاعتك مراجعة المرجع Korotayev et al., 2011) تنتهي بحاجتنا لوضع هدفنا الاسترتيجي بعد 15-20 سنة من اليوم للقيام بالثورة المقبلة. و يجب أن يبدأ التحضير لهذا الهدف بدءاً من الآن.

التحضير

هناك تحالفان إثنان مهمان جداً يجب أن يحصلا:

الأول, تحالف بين معارضي الخارج و مجتمع الداخل, و الحرص على عدم وقوع قطيعة شبيهة بالقطيعة بين فلسطينيي الداخل و الخارج, بل جعل الأول استمرارية للثاني. أي التوفيق بين الأنواع الأربعة الأولى من السوريين المذكورة آنفاً, أو على الأقل بين الثالث و الثاني و الرابع. و الحرص على ألا يستميل النظام الشرائح المجتمعية لصالحه. هؤلاء السوريون يحتاجون بعضهم البعض في كلشيء, و لا يمكن ضمان نجاح أي نشاط في سوريا دون تحقيق هذا الأمر.

الثاني, تحالف بين السنّة المعارضين مع أقلية طائفية غير مسلمة, يفضّل تأمين تحالف على الأقل مع السريان المسيحيين (لا مكان في هذا المقال لتفسير سبب اختيار السريان المسيحيين). الطائفة الدرزية أيضاً واحدة من أهم الحلفاء المحتملين. بناء تحالفات استراتيجية مع باقي الطوائف (اجتماعية أساساً و سياسية لاحقاً) يضمن مكاسب ثورية كبيرة, أهمها موازنة المكونات الاجتماعية بشكل وطني في أي ثورة أو حراك تغييري مستقبلي, و التخلص من ورقة الأقليات التي يلعب عليها النظام.

بالعمل على هذه التحالفات, يمكن للمجتمع السوري استعادة عافية ما, و بناء ثقة و تعاضد يحتاجه لأي خطوة تنفيذية يريد القيام بها.

من أجل تحقيق الثقة, تنمو الحاجة لبناء نظام مكافأة و عقاب, فيغذي الإثنين(الثقة و النظام) بعضهما في علاقة دينمايكية. المكافأة تأتي لتشجيع سلوك حسن, و العقوبة تأتي لتثبيط سلوك سيء. و مجتمع ضعيف كالسوري اليوم لا يملك الكثير من الأدوات للتطبيق المكافأة و العقاب, لكن تبقى هناك الأدوات الأكثر بدائية على الإطلاق. الدعم و التقارب و الإدماج كمكافأة, و النبذ و التحقير و التهميش و التشهير و ضرب السمعة و المقاطعة كعقاب. بالفعل, إن أشد ما يحتاجه السوريون اليوم هو شعورهم بالثقة بين بعضهم, و هذه لا يمكن تحقيقها إلا إن قصد المجتمع إقصاء المُخبِر و الضفدع و المتسامح مع النظام, و تَقَاربَ مع المتماثل و الثوري و المعارض. إن التعصب للمُثل الثورية و معاقبة مخالفيها ليس عيباً, حتى إن بدى ذلك التعصب مطلقياً. تلك المثل و المبادئ يجب أن تتخفى لغوياً و شفهياً و سلوكياً و تربوياً دون ذكر كلمة “ثورة” بها, فهذا ما سيبقيها حيّة حقاً, أن تنتقل معنىً لا لفظاً.

و من المهم بهذا الصدد الأخذ بعين الاعتبار أن بعد نهاية العمل القتالي و انتهاء الثورة الحالية فعلياً على الأرض, سيحصل أمران:

الأول, سينكفئ المجتمع على نفسه و ينكص لتجمعات قبل وطنية أكثر من ذي قبل, طائفية محلية في التجمعات الحضرية, و قبَلية في التجمعات العشائرية.

الثاني, سيقوم النظام بكل ما يستطيعه لكي يمنع وقوع ثورة ثانية تطيح به. يشمل هذا إفساد الشعب و الجيل الجديد و تغييبه و تخديره و ربما رشوته. و منع نشوء طبقة اجتماعية اقتصادية مشابهة للتي ينتمي إليها الرعيل الثوري الأول. و تشجيع الناس على تصنيف أنفسهم بكلشيء إلا بانتمائهم السياسي.

كلامٌ على ما يملك من سلبيات كثيرة, و معطيات مظلمة, لكنه يملك ما يفيد أيضاً. النكوص إلى حالة مُحافظة و تَوَحُدِية يشمل أيضاً تآصراً قوياً بين الناكصين, فالتجمعات الأهلية المحلية التي سوف تتشكل سيكون هدفها الرئيس تحقيق ثقة عالية بين أفرادها. و هنا تكمن فائدة ما ذكرته عن الجزاء و العقاب, إذ يمكن استغلال هذا الأمر لصالح الحراك الثوري. إن فعلياً ما نحتاجه هو إدارة هذه التجمعات كي تبقى تجمعات منزوية مضبوطة واثقة من نفسها دون أن تتصارع مع الجماعات الأهلية المجاورة. و إن تشكيل صورة ذهنية للحكومة العدوة و وجود تهديد مشترك و نظام أخلاقي تشريعي واحد (الجزاء و العقاب أعلاه) لكل هذه التجمعات سيعمل لوحده لاحقاً في الوقت المناسب على جمع تلك الجماعات في ((مجتمع)) واحد موجهٍ نحو قضية واحدة. إن الخطوة التي تدل على جاهزية هذه الجماعات للتحول إلى ((مجتمع)) وطني واحد هي أن تخطو نحو التقارب مع جماعات مغايرة طائفية (شبيهة بالتوصية المذكورة أعلاه عن التحالف مع السريان و الدروز), و ذلك إن وقع فسيكتمل في القسم الأخير من المدى الزمني المحدد.

إن الفرصة الأساسية للمجتمع السوري اليوم لحماية نفسه من الإفساد و التغييب هو استغلال انتكاصه و انكفائه في بناء جدار أخلاقي منيع: أي مياعةٍ شبابية أم حبة مخدرة أم مضيعة وقت و إهدار طاقة يجب أن تمر من جدار من الفلاتر الأخلاقية تحت طائلة العقوبة. و أي نجاح أو إنجاز أو إنتاج ينسبُه الفرد لجماعته يجب أن يكافأ عليها بمكافأة متناسبة أيضاً. و يجب العمل على إبقاء معيار التصنيف بين الناس هو انتماؤهم السياسي.

و عن الجدار الأخلاقي ذاك, و مُثُله و قوانينه و ماهيته,  فله حديث طويل, و لربما يكون لنا به مقال آخر. لكن للآن, لنتفق على ما هو (ليس) عليه. إنه ليس الدين قطعاً, إن العقيدة الدينية لا تكفي للابقاء على معنويات قوية و صمود في المعركة, فالكثير من أصحاب الذقون و الرايات الجهادية الرنانة تحولوا لضفادع حقراء. و أغلب الناس لم تصبر على دولة إسلامية منشودة, بل اختاروا إما الهرب من سوريا أو البقاء تحت سطوة النظام. السوريون بحاجة لمشروع سوري, وطني, ليس إسلامي, ليس عروبي, ليس أجنبي.

هذا يعني أن هناك حاجة لعقيدة ثورية علمانية تجعل من الثورة عند المحارب و المدني الصابر استثماراً دنيوياً رابحاً على المدى الطويل. و لا شيء يمكن له دعم المجتمع السوري في المرحلة المقبلة إلا أن يتقبل قيمهُ الأخلاقية الأهلية العلمانية و اقتناعه أن مربحه يكمن في ثورة وطنية عارمة.

هل هذا يعني نفي الدين مطلقاً؟ لا, تمثيل الإسلاميين و الشيوخ ضروري و مهم, لكن وجب إقصائهم من الإدارة و التوجيه, فخبرة علماء الدنيا بالدنيا أفضل بكثير من خبرة علماء الآخرة بالدنيا. و ذَنْبُ فشل ثورتنا الحالية يقع بمعظمه على عاتق هؤلاء, فلتكن تجربتنا معهم درساً لنا.

و لنتفق على هدف ثوري معرّف و واضح: هناك مجتمع و هناك سياسة, و الثورة السورية أتت لتغيير السياسة و المحافظة على المجتمع. كان التصور الأول للثورة السورية هو تطوير المجتمع لا تغييره (أي البناء على الرأسمال الاجتماعي و القيم الأهلية الموجودة أصلاً), و تغيير النظام السياسي لا تطويره, فهو ممتنع عن التطور و يجب استئصاله من جذوره. ما انتهت إليه ثورة الـ2011 هو العكس مع الأسف و ضاعت بوصلتها. ليبقَ إذن هذا الهدف دائماً نصب أعين الثورة القادمة. و لتكن تلك الثورة طغياناً على الطغاة, كل الطغاة.

مراجع:

Korotayev, A., Zinkina, J., Kobzeva, S., Bozhevolnov, J., Khaltourina, D., Malkov, A., & Malkov, S. (2011). A trap at the escape from the trap? Demographic-structural factors of political instability in modern Africa and West Asia. Cliodynamics, 2(2).

 

Syrian Revolutionary Songs Translated – Chant 2: “Heaven, Heaven”

 

Untitled-3

Please, before you read this entry, I recommend you take a look for the introduction in the first article for a better understanding.

“Heaven, Heaven” (Transliteration: Jannah, Jannah), another highly popular chant in the SR, is derived from an older folkloric song. It addresses many parties; sometimes other cities inciting them to revolt, sometimes the “homeland”, or sometimes Bashar Al-Assad. As a reader, you need to understand the addressees from the context. It is structured as a conversation between the main orator and the protesters. The orator sings some verses, and then the protesters have to reply with a “heeh!” or with the following lines at each recital ending (which I marked as stars) :

Heaven heaven, you are a heaven O our homeland..

O our beloved homeland, the one with the gracious soil..

Even your hell is a heaven.. Even your hell is a heaven..

Video: “Heaven, Heaven” in a Homsian protest.

Heaven, Heaven

Heaven heaven.. you are a heaven O our homeland..

O our beloved homeland.. the one with the gracious soil..

Even your hell is a heaven.. Even your hell is a heaven..

Your soil pleased us.. your lap fostered us..

Your soil pleased us.. and for your soil we yearn..

 In your glory.. we achieved greatness.. we achieved greatness..

*******************************************************

Revolt revolt! O city of Dara’a .. You are the light in our darkness ..

Homsians are calling for your aid.. O our burden’s relievers.. O our burden’s relievers..

*******************************************************

Forgive us O city of Hama1.. for we owe you..

You are one of us..our hope is in god’s hands… and god forbids disappointing us..

*******************************************************

From Jisr-Alshughur to Al-Rastan.. the melody of martyrdom has been played..

It will continue to be heard whatever number you kill and bury..  heaven is acquitted from you.. heaven is ours!..

*******************************************************

From Raqqa to Al-Qamishli .. the blood of heroism boils..

He kills nations and then he prays.. he kills nations and then he prays.. leave us you villain..

*******************************************************

Even the free ones of the Syrian coast2.. approve your removal..

By god you are a loser.. a tyrant and a loser.. leave us you villain..

*******************************************************

Fly, fly, fly.. fly O gulls of the sky..

O martyr of my nation .. jasmine and Damask roses are yours3..

*******************************************************

Hama faced a huge massacre in the 1980s, with about 20000 people killed by the most conservative statistics. Even though the massacre was large, it didn’t incite other cities to take political action.
2  The Syrian coast is predominantly inhabited by Alawites (The minority sect that Bashar Al-Assad belongs to), and is historically a pro-regime stronghold. The intended message behind the verse is implicit and anti-sectarian, that even Alawites are welcomed to join the revolution. Indeed, some protests have broken out in the Syrian coast, and this verse serves as a praise for those protesters.
These domestic roses are used in decorating the corpses of martyrs in burial rituals.

Syrian Revolutionary Songs Translated- Chant 1: “Longing for Freedom”

 

Untitled-3

I’m starting a series of articles where I will be translating some Syrian revolutionary songs chanted during the first period of the revolution—the peaceful uprising phase before any militarization/islamization of revolution) a phase nostalgic for most of us who experienced it.

The scripts contain lyrics of famous chants sung by protesters calling for the oust of the Syrian Assad regime. The original language is the Syrian vernacular variant of Arabic, and is translated here to English. Keep in mind that all the chants are poetic (or quasi-poetic), that is, they rhyme in their original language, but unfortunately this is lost in translation. The chants I selected reflect secular, anti-authoritarian, pro-democratic values, they are also representations of revolutionary pride and self-praise over the courage that was taken to break the silence barrier and confront an ultra-repressive dictatorship. I purposefully dropped  some confusing verses that reflect domestic, micro-  or too-specific- meanings that only a limited amount of people can understand. I organized the chants so that they can address people globally. Also, I will purposefully ignore chants that reflect religious or “Islamists” values, which started to appear by the end of the peaceful phase. The aim of this series is not just to spread and document a revolutionary script in more languages, but also, to communicate ideas, attitudes, and maybe to de-distort the current conceptions about the Syrian revolution as one of religious fundamentalism.

Disclaimer: It is hard to translate vernacular Arabic and still deliver the full meaning and aesthetics behind the words, I tried my best as much as I can though.

P.S. : The texts my behave strangely (e.g. dots may be in the opposite side of the phrase..etc.) , this is because I use an Arabic interface in WordPress, which writes from right-to-left, and organizes my texts accordingly.. it seems that Latin alphabet is causing the site a headache, so I’m sorry about this, I couldn’t solve it.

“Longing for Freedom” (transliteration: Hanen lal-hurriyi), is one of the most famous chants in the SR. It is structured as a conversation between the main orator, and the protesters, the protesters have only to reply with the words: “The one who murders his own people is a traitor..”, while the main orator does the rest of the work. The chant addresses “Bashar Al-Assad” with the word “You”, so keep this in mind whenever you see this word. In this version, The city of Homs was specifically praised (as in the video), but virtually any other city can be put in its place.

Video: “Longing for Freedom” as sung in Al-Khalidiya district’s protest in Homs. 

Longing for Freedom

Longing for freedom… a people insecure in their own homes..

Old ones, young ones, we all know… That the one who murders his own people is a traitor..

Either change things around you, or get changed yourself… or even better, let your people liberate themselves from you..

This is an unrepeatable chance… The one who murders his own people is a traitor..

Freedom is what those people are asking for… from Homs, to Dara’a to Banyas..

Dignity isn’t something you are allowed to trample on… The one who murders his own people is a traitor..

We raise over our heads* the staunch city** of Homs… The one who murders his own people is a traitor..

Your knife doesn’t cut us any longer.. it doesn’t work anymore against your people..

May your knife recoil against you and stab your heart… The one who murders his own people is a traitor..

Your theatrical play is over… we shall never give up Homs..

All of Syria has chanted: The one who murders his own people is a traitor..

This is Syria, it all chanted: The one who murders his own people is a traitor..

Go away you coward… you proxy of Iran…

Your father had sold the Golan***… The one who murders his own people is a traitor..

Go away you liar… No more torture, no more wounded ones..

Freedom is knocking on the door… The one who murders his own people is a traitor..

Go away you swine… enough with killing and destruction..

Your father preceded you with despicability… The one who murders his own people is a traitor..

Relieve us from your gibberish… our beloved detainees we shall liberate..

We shall decorate the houses and the streets… The one who murders his own people is a traitor..

We die for the sake of freedom… the rule of the Assadists is rejected..

 We die for the sake of freedom… your rulership on us is rejected..

We the Homsians, die for the sake of freedom… your rulership on us is rejected..

Martyrs don’t fear death… The one who murders his own people is a traitor..

Homsians don’t fear death…The one who murders his own people is a traitor..

* To say “I raise/put something—or someone—over my head” in the Syrian culture is an idiom for considering that thing/person with high regard and reverence, i.e. like a king’s crown.
** Homs Al-‘Adiya : A historical title for Homs city, even Homsians can’t really pinpoint “Al-‘Adiya” meaning. It seems that it is related to “staunchness” or “steadfastness”.
*** A wide and strategic hill that borders Syria and Israel. The Syrians lost it to the Israelis in the Six-Day war. It is said that the Syrian defense minister back then; Hafez Al-Assad (Bashar’s father), ordered a full retreat from the hill and surrendered it to the Israelis without one bullet fired. Until today, the hill is still under De-facto Israeli administration.

مدخل إلى اليعقوبية الثورية السورية

220px-LibertyEqualityorDeath

من الشعارات اليعقوبية للثورة الفرنسية: “الحرية, المساواة, الإخاء, أو الموت”

باتت الحاجة ملحة للنطق بما تملكه أفواهنا المكتومة من كلمات تصيغ مبادئ شريحة مكسوفة من السوريين الثوريين, مبادئ قدحوا بها شرارة الثورة و اعتنقوها من البداية, و بعضهم اعتنقها لاحقاً, إلا أنها لم تُمَثّل أبداً في المشهد الثوري, لا سياسياً ولا عسكرياً, و لربما تمثلت جزئياً في الحقبة الأولى للثورة السورية فيما يستدعي الحنين اليوم.

كشريحة من الثوار السوريين, وصلنا إلى هذه المبادئ و المُثُل بشكل مستقل, دون رغبة بالتقليد أو المحاكاة, و بحكم الصدفة تشاركنا فيها كثيراً مع التجربة الثورية الأم لكل الثورات الحديثة, تجربة الثورة الفرنسية الأولى 1789 بقيادة جماعة “اليعاقبة”(1), و لهذا دعوتها هنا بـ”اليعقوبية الثورية السورية”, أو “اليعقوبية-الجديدة السورية”.

أذكر قراءتي لما كتبه الدكتور برهان غليون يوماً ما و أعيد صياغة ما كتب حسب ذاكرتي: “الثورة السورية ليست غلواً ثورياً, إنها ليست ثورة يعقوبية و لا نريد لها أن تكون كذلك”. أثارت تلك الكلمات غضبي, و مذ يومها, لم أعد أنظر إلى مفكر عظيم محترمٍ هتفت لأجله في المظاهرات ذات النظرة, و قطعت شعرة معاوية مع معظم المفكرين المحسوبين على الثورة, إذ أن أغلب من يملك التغطية الإعلامية و القدرة و الوقت على التنظير, مضطرٌ ليكون خارج البلد, و اقتنعت بتحميله تهمة الانفصال عن الواقع تباعاً, و اتباعه لنزواته و مشاريعه الشخصية التي لا تتفق بالضرورة مع الرغبة الجماعية للثورة. هل هو انفصال بين الثوري الميداني الشاب و المعارض القديم المخضرم؟ ربما, لكنني حاولت مقاومة هذا النوع من الانفصال, و آثرت قولبة ردة فعلي بطريقة نظرية, و إن حملت في طياتها غضباً, و أيما غضب.. فقد طفح الكيل.

أبدأ بالسؤال التالي: لماذا نحتاج للتطرف الثوري؟

قد يجيب البعض بأن الإجراءات الثورية المتطرفة هي التي تحقق المبادئ الثورية و “تتعصب” لها و تحافظ عليها و تحميها باستماتة صلدة. لكن أرى في هذا التصور تبسيطاً و اختزالاً لدور التطرف الثوري الأهم. علينا أن ننظر إلى الأمر من زاوية أعرض لتغطية صورة أكبر. لنتذكر معاً كيف أنه مع بدايات الربيع العربي لم يكن هناك طيفٌ سياسيٌ ثوريٌ بمعنى الكلمة, لم يكن هناك يمينٌ إسلامي أو يسارٌ علماني أو وسط توفيقي, و كيف كان الجميع قد خرج إلى الشارع لسبب معين معروف, لمواجهة عدوٌ معينٍ معروف, باستخدام طريقة معينة معروفة للمواجهة: كفّ الدكتاتورية و الفساد و إعلان الحريات ..الخ في مواجهة النظام العدو و على رأسه الرئيس و ذلك بتوظيف وسائل التظاهر و الثورة السلمية. لكن مع الزمن, كان لا بد لنشأة طيفٍ داخل الثورة نفسها يفصل ما بين الكتل المعارضة المختلفة و المتمايزة, فسوريا تملك معارضين من شتى الأقطاب, كالأخوان المسلمين و الشيوعيين. و لعل ذاكرتي لا تخيب عندما أقول أن الثورة السورية بدأت تنحدر بُعَيد تشكل الطيف السياسي الثوري ذاك. و السبب هو التالي, يقول الكثيرون أن الأنظمة العربية حققت نصراً ما على شعوبها, و هو تدجينها لتتصرف بطريقة معينة عند الحاجة, و قد شهدنا الأثر السلبي لهذا التدجين على الثورة بمظاهر مختلفة, لكن معظمها كان يتبع ذات المنطق و المعيار: بدلاً من أن تنزاح الثورة إلى يسار الطيف, و هو الحال الطبيعية لأي ثورة في التاريخ, أخذت الثورة السورية تنزاح نحو اليمين, نحو الثورة المضادة, نحو التقليدية و التدين و اللون الواحد. و لمقاربة أكثر دقة و أكثر تعقيداً بقليل, فإن الثورة بطبيعتها تنازح عشرة خطوات إلى اليسار ثم تتراجع خطوة إلى اليمين, بينما ثورتنا السورية حدث لها العكس, انزاحت خطوة إلى اليسار(الفترة النوستالجية لمعظمنا) ثم تراجعت عشرة خطوات إلى اليمين.

لهذا السبب تماماً نحتاج إلى متطرفين ثوريين, إنهم هم من يشدون الطيف الثوري نحو اليسار, و يمنعون الانحدار الذي حصل و يقفون في وجه محاولات الارتجاع الثوري, و يعطون الثورة تطورها الطبيعي نحو اليسار, و هكذا تبقى زمام المبادرة في أيدي الثورة. إن ما حصل لثورتنا السورية سببه عدم وجود تطرف ثوري, تطرفٍ يستطيع أن يبلع ظلمات الثورة المضادة و يبقَ مع ذلك يشع بالمبادئ الثورية. إن هذا الدرع في وجه طعنات الغادرين هو الذي يضفي راحة نفسية على الثائر العادي, و الذي بوسعه عندها ممارسة نشاطه الثوري مطمئن القلب. الثوار المتطرفون هم من يحملون المبادئ الثورية حتى النهاية, و يجعلونها تنمو و تتطور حتى تتبرعم و تنضج. إنهم هم من يمارسون واحداً من أهم الوسائل للنجاح في أي ثورة: الاستقطاب الثوري, و الذي يقتضي التعبئة, التعبئة الثورية. يعي المتطرفون الثوريون وجود عدوين إثنين, واحدٌ أمام ناظريك و هو الدكتاتور الحاكم. و العدو الثاني وراء ظهرك و هو الثورة المضادة. و بلوغ هذا الوعي هو واحدٌ من أهم العوامل لنجاح أي ثورة. بهذا أكون قد أجبت عن السؤال الأول.

و قبل أن ندخل في شرح القيم اليعقوبية (المتطرفة ثورياً), دعوني أرسم خطاً يميز بين الخيال و الواقع, بين الذي يوجد اليوم و بين الذي وُجِدَ يوماً ما, خطّاً يعمل عمل المرجع و يساعدنا بتشخيص مكاننا اليوم في فضاءٍ ما بعد حداثيٍ لا مرجع له.

لنعترف, نحن لسنا في عصر التنوير, و لسنا في 1789 فرنسا. على العكس, نحن خرجنا لتونا من النفضات الأخيرة لعصر التنوير, أقصد الشيوعية, و إن أحببتها أم لم تحبها فهي تُعتَبَر مرتبطة مع التراث التنويري. التنوير انتهى و غربت شمسه, نحن الآن في المساء, و الليل يخيم علينا. و ليست منطقتنا من العالم هي تلك التي ترى النور كثيراً أصلاً, ليست على الأقل للألف سنة الماضية, فالشرق الأوسط مشغولٌ, بل ملعونٌ بلعنة الحروب الدائمة, و على الثورة أن تأتي و توقف هذا الهراء القدري التاريخي و تحرق طلسم اللعنة.

نحن في فترة الانتقال من العقلانية نحو العاطفية, تسمى هذه الفترة الوسيطة بـ”الحدسية intuitionism “, إذ لا هي عقلانية تماماً و لا عاطفيةً تماماً بعد. تحمل الحدسية خصائص تختلف عن الإثنتين, خصوصاً في قضايا الأخلاق, و إدراك الواقع و ماهيته(الميتافيزيقيا), و عملية صنع القرار. يهمنا هنا تحديداً مسألة الأخلاق, فأنا أرى, و أتشارك هنا مع اليعاقبة الفرنسيين, أن الثورة فعلٌ أخلاقي قبل كلشيء. بوصول الحدسية, لم تعد الأخلاق محاكمة فكرية معضلية تستهلك ضمير الإنسان, بل هي حدسٌ(شعور) متبوعٌ بالحكم الأخلاقي, متبوعٌ أخيراً بتبرير عقلي. أي أن الشعور هو ما يقرر إذا ما كان الفعل أخلاقيا أم لا, و العقل يأتي لاحقاً ليبرر هذا القرار… باختصار, العقل لا يولد الحكم الأخلاقي, و إنما العاطفة.

حادثة أخلاقية ⇐ حدس الشخص س ⇐ حكم س الأخلاقي ⇐ تبرير س حكمه المسبق بشكل عقلاني ⇐ نقل التبرير إلى حدس الشخص ع ⇐ حكم ع الأخلاقي ⇐ تبرير ع حكمه بشكل عقلاني … الخ(دائرة) (Haidt, 2012)*

شكل يوضح النموذج الحدسي:

SocialIntuitionistCC

 

هذا الواقع يغير كلشيء, بما فيه طريقة التعاطي مع الثورة, و يجب أن يبقى دائماً في رأسنا كي نملك فرصة بالنجاح و نتجنب الارتباك الذي نحن فيه. الطريقة الصحيحة للتعبئة الثورية ليست بدفع الناس نحو التفكير بالضرورة. هناك مشكلة موجودة, كنت أنا أحد العالقين بشراكها, و هي تأليه أو طوطمة العقل و الوعي, العقلانوية, كأنها هي الشرط الذي بها تنجح الثورات, كأنه على الجميع أن يكون واعياً و بالغاً درجة العلم. و أقول لا!, بل الشرط هو وجود الإرادة, و أما عن الوعي, فنعم, قد يكون هناك حدٌ أدنى مطلوب لدخول المدرسة الثورية, لكنه برأيي لم يكن هذا مشكلة في سوريا, فقد بلغ الثوار السوريون هذا الحد الأدنى. لأوضح موقفي هنا, اسمحوا لي أن أحلل الأمر و لنوصف ما أراده العقلانويون قبل أن أرد عليهم. قبل كلشيء, لنتفق على أن المفتاح هو جعل الناس يحكمون أن الثورة محقة أخلاقيا و يجب اعتناقها و مناصرتها. عندما يطوطم العقلانويون “الوعي” فهم لا يقصدون تفكيراً خاماً أو تعليماً عاماً عالياً منتشراً بين السكان, بل يقصدون بكلمة “وعي” قدرة محددة, و هي المحاكمة العقلانية الأخلاقية التي تحكم أن الثورة هي الفعل الصحيح, و هذا كما رأينا من آثار عصر التنوير, التي تشدد على أن يكون العقل هو سبب الفعل الأخلاقي. و هناك فعلاً داعٍ لهذا النوع من العقلانية, لكن فقط عند النخب الثورية, أما الثوار العاديون, فلا داعي لأن يعبؤوا بهذا المعيار العالي. إن الحدسية الأخلاقية التي نعيش بها اليوم تعطي الأولوية للعاطفة بدلاً من العقل, لذلك, فلن يركب المفتاح العقلاني بالقفول الأخلاقية لأبواب اليوم, و نحتاج لمفتاح آخر, إنه مفتاح الحدسية.. هذا هو المفتاح الصحيح.

و مهما وجدنا نفوراً أو اشمئزازاً من هذه الطريقة اللاتنويرية/اللاعقلانية في ممارسة الثورة, و خيبة أمل طوباوية في اقناع الناس بالعقل, فعلينا ألا ننسى أن الطريقة العقلانية في التعاطي هي منظومة نسبية لها زمانها و وجدت من أجل عصر التنوير, و صممت و تطابقت مع ذاك العصر و حاجته, بينما اليوم, فالأمر مختلف.

إن أحد المفاتيح الحدسية هو “الإرادة” كما ذكرت. لا يجب أن تنتظر الثورة أو تقولب وعياً ما, فهذا إزهاق للوقت, و عليها أن تهتم بالتوعية بعد انتصار الثورة, لا جعلها شرطاً لبدء الثورة. إن ما يجب فعله هو بناء ((إرادة)) ثورية, و عندما أقول إرادة أعني أمرين يجب تحفيزهما و توضيحهما: الرغبة و الهدف. تلك الإرادة هي ما يصلح ليكون شرطاً للثورة, و هي أقرب للحدسية من العقلانية.

ليست هذه العوارض الجانبية للحدسية و حسب, بل أيضاً هناك مسألة أخرى. إن جزءاً أساسياً من الخطوات الأخلاقية الحدسية هو نقل الحكم إلى حدس الآخرين, أي نقل الحكم العاطفي اجتماعياً و نشره بين الناس, مما يضعف الاكتفاء الأخلاقي الذاتي و يدعم الانقياد الجمعي, و يعزز شرعية طغيان الأغلبية. و لك أن تتخيل عظم هذه المكربة مع وجود التواصل الاجتماعي اليوم, و مدى عزلة فردانية الإنسان و رغبتها بالانفجار.

لا ننسى أيضاً التدجين الجماعي و التعليم العمومي الموحد.. الخ. هذه الخصائص يجب مراعاتها و تمييزها عن أزمان اليعاقبة الفرنسيين, الذين اعتُبِروا التجل السياسي لعصر التنوير و العقلانية—لا الحدسية. و برسمي لهذا الخط, أبدأ في تحديد القيم اليعقوبية الثورية.

ما هي القيم اليعقوبية الثورية السورية؟ أو كيف ليحكم هذا اليعقوبي إن وضع في موقع سلطة على الثورة أو البلد؟

  1. إن أول ما دفعني لأنجذب نحو اليعاقبة هو غضبي و حقدي و بحثي المضني عن حل اتجاه الثورة المضادة و خونة الثورة السورية. كيف لهؤلاء أن ينجو بفعلتهم! بل إن بعضهم استلم زمام أمورنا! أمور ثورتنا, و بات وجها من وجوهها, و لربما بطلاً من أبطالها! الثورة هذه التي أعتبرها مقدساً أخلاقياً, قدس الأقداس, بات يهيمن عليها كهنة كفرة بها, و لا أحتمل منظر عدوٍ يشوه مقدسي, ناهيك عن خائن يتبول عليه من خلف ظهري. أردت, كما غيري, أنا أراهم يتعرضون لأشد نوازل العقاب. على العقاب أن يكون مقوننا و معلناً و مطبقاً بحزم, إنه وسيلة أساسية في ردع الثورة المضادة, إذ هو يضعف من تواتر السلوك السيء, و يرسل رسالة برفض الثوريين لهذا السلوك. العقاب قد يكون جسدياً, و قد يكون نفسياً, و لا يخجل اليعقوبي من كليهما. كلٌ منهما له وقته و نفعه.
  2. في المقابل, و ببناء منظومة عقاب, فتحتاج أيضاً إلى منظومة مكافأة. حتى أكثر الفصائل العسكرية المعارضة للنظام السوري, لا تملك نظام مكافأة ولو رمزيٍ يوازون به النظام السوري. و عندما أقول مكافأة لا أقصد مكافأة مادية فقط—ولا أتمناها أن تكون مادية—و لا أقصرها على العسكريين, بل قد تكون تغطية إعلامية لصوت مواطن ثوري عادي, قد تكون مكافأة نفسية و معنوية و اعتبارية, نيشاناً, رسالة شكرٍ خطية, زينة ثورية. بهذا الشكل, يتم تعزيز الولاء للثورة و تبيان السلوك المطلوب للعامة.
  3. المبادئ الثورية مقدسة. الديمقراطية, التنمية الإنسانية, حقوق الإنسان, الحرية و العدالة و الإخاء, المساواة, دعم الجميع في تحقيق مشاريعهم و بناء مستقبلهم .. الخ.. هذه المبادئ على قداستها, لا تعني امتناعها عن النقد و تحجرها كما لو أنها كتاب ديني, بل يمكن انتقادها و تعديلها مع المحافظة على مآربها الإيجابية و قدسيتها في ذات الوقت. دستور الثورة الفرنسية كان قد تغير عدة مرات قبل الوصول إلى صيغة مناسبة.
  4. البروباغاندا الثورية باتت شرطاً أساسياً لأي نصر سياسي. ليس فقط لنشر المعلومة الثورية و التحكم بما ينشر و بما لا ينشر, و إنما أيضاً بردّ بروباغاندا العدو. إن البروباغاندا الثورية تعمل أمرين, نشر المعلومة الموالية في كل مكان, و منع معلومات العدو عن كل مكان. و ذلك لهدفين, رفع معنويات الثوار و حشد الدعم, و تخفيض معنويات العدو و الطعن بمصداقيته و داعميه.
  5. الأدلجة الثورية, و هنا لا نعني بها “توعية من نوع خاص” بالمعنى الكلاسيكي العقلاني. و إنما المقصود هو عملية ذات اتجاه واحد, هي انتشار المعلومات و الاستسهابات الثورية الأخلاقية من النخبة الثورية إلى الثوار العاديين في سبيل تعبئة الأخيرين و حشد قوتهم. و ليست هذه الطريقة بـ”عقلانية” كما ذكرنا, بل يمكن أن تكون “حدسية” بما يتناسب مع روح العصر. علينا أن نعي أننا في ما بعد الحداثة لسنا مهتمين بالـ”حقيقة” كما كانت الحال في عصر التنوير, بل على العكس, قد يسعى أبناءنا في بحثٍ شاقٍ عن الكذبة و الخداع. و إن كَذِبْنَا, فمن الأفضل أن تكون كذبة أفلاطونية بيضاء, بدلاً من أن تدع فراغاً أيديولوجياً تملؤه الكذبات السوداء. الأدلجة الثورية أيضاً عليها العمل على مسح الأيديولوجيا البعثية أو الدكتاتورية السابقة, و منعها من اختراق العقول من جديد, و هذه مهمة كبيرة و صعبة, فاليوم هناك مؤثرات موجهة مشتركة تؤثر على الجميع(التعليم الحكومي العمومي مثلاً).
  6. التوعية و التعليم و بناء الإنسان واجبٌ ثوري و أخلاقي يجب التخطيط له على أكمل وجه, هذا جزء لا يتجزأ من المشروع اليعقوبي. إن على اليعاقبة بناء ملكة نقدية عند الفرد تستطيع تجاوز مشكلات اللحظة نحو حال أفضل, و تمنع أي دكتاتور أو مستغلٍ من الوصول إلى موقع سلطة في المستقبل.
  7. التعصب الثوري, و ذلك يحمل عنصرين إثنين. الأول, التطرف اتجاه العدو في الأمام, أي النظام السوري و الدكتاتوريات القمعية. و الثاني, التطرف اتجاه العدو في الخلف, أي الثورة المضادة و الطاعنين في ظهر الثورة. و كلمة تعصب نعني بها إما النصر أو الموت, لا للفشل. و يعتبر البعض أن “الموت” نوع من أنواع الفشل.. أي لا خيار سوى النصر. إن المتعصبين ثورياً لا يسمحون لأي تسويات أو استسلامات أو تملقات أو ابتذالات عن الرحمة و العفو. الثورة تخدم الناس, و المتعصبون للثورة يخدمون الثورة.
  8. الثورة تنطوي على فيضة عاطفية عارمة في بداياتها تشعر معتنقيها بالنصر المحقق و المطلق(المعنويات الثورية). هناك عادة طريقتين اثنتين لإضعاف المعنويات الثورية: الإفراغ النخبوي, سواءاً بقتل قادة الثورة و نخبهم أم حبسهم أم تهجيرهم. و/أو الزمن, حيث تخمد المعنويات مع الوقت. يدرك اليعاقبة هذا الأمر, و يحافظون على المعنويات الثورية, و يدافعون عنها معتبرين إياها عنصراً هو الأهم في المحافظة على الثورة و قيمها.
  9. يرتاب اليعاقبة من البيروقراطيات المتنافسة بين بعضها على الموارد و السلطة. لا أحد يحب منظر الكتل المعارضة و هي تشحذ مقعدين هنا و هناك, و تقتتل فيما بينها و تشل الثورة في الداخل و الخارج. هناك مبادئ ثورية و خطوط معينة يجب الاتفاق عليها, و من لا يتبعها ليس جزءاً من الثورة, و من اتبعها فعليه الانتظام تحت جسد شرعي واحد مع توزيع عادل للسلطات.. و إن لم ينتظم و آثر الانشقاق و الإعاقة… فإلى المقصلة.
  10. هذا يوصلنا إلى مركزية السلطة و صنع القرار. و مركزية لا يُقصد بها دكتاتورية الفرد, بل سلطة متفق عليها ديمقراطياً تحت الجسم الشرعي الموحد. إذا هيمنت دكتاتورية فردية فلم يعد إسم التيار يعقوبياً.
  11. و عن السلطة, فهي ضد الحرية, إنها التقييد و التنظيم و القسر, و لا يجب أن تستخدم السلطة إلا من أجل نصرة الثورة و صالح الإنسان. يشمل هذا تقييد الحريات و كم الأفواه و التعنيف عند الحاجة, إن السلطة الثورية تستخدم كل أنواع المنطق, بما فيها منطق القوة أيضاً, و إن التهرب و التخفي من مواجهة هذا الأمر يودي الثورة إلى الحضيض. و هذا ما يدركه اليعاقبة, و يرون به أهمية لتنظيم السلطة و توجيهها, و فصل السلطات عن بعضها, و عدم كشفها للعشوائية و الأيادي العابثة.
  12. و إن الدماء في الثورات تسيل بالتأكيد, و هو ما يدركه اليعاقبة و لا يمنعونه, و يرون أنه من الأفضل التحكم بسفك الدماء و إدارة المسفوك, بدلاً من تركها منفلتة عن عقالها.
  13. الثورة تأكل أبناءها, و اليعاقبة يتقبلون هذا الأمر بشكل تام.
  14. الوطنية السورية, و فقط السورية. إن المشروع الذي تحمله اليعقوبية السورية هو وطنيٌ و سوريٌ بحت. و هنا نصطدم مرة أخرى مع الدكتور برهان غليون صاحب المشروع العروبي. المشروع الوطني السوري, أقل كلفة و أكثر قدرة على التركيز و الحشد. هناك تعريفان يجب تحديدهما, الوطن, و سوريا. و ليس هذا سهلاً كما قد يبدو الأمر, فستظل مشكلة الوحدة الثقافية و التاريخية موجودة, فهل نعتبر لبنان سورياً؟ و هل نعتبر أنطاكيا التركية سورية؟

إن الوطنية السورية ليست تعصباً عرقياً أو زينوفوبيا اتجاه الآخرين, فالثورة اليعقوبية ترى في الإنسانية غاية لا وسيلة, و في المجتمعات الأخرى جمهوراً متساوياً لمبادئها, و الأهم, أن اليعاقبة لا يعرّفون وطنيتهم بالتمايز, و إنما بالجزم و الإثبات. و الوطنية بالنسبة لهم هي إدراك تاريخيٌ و معنويٌ لوطنهم و أبناء وطنهم مما يساعدهم على النمو و التقدم و فهم الذات و التخطيط للمستقبل. إنهم يطالبون بأن يكون السوريون سوريين قبل كل هوية أخرى.

  1. هذه الوطنية قائمة على علمانية لائيكية, تفصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً و ترفض اقحام الدين في السياسة و توجيه المجتمع, مع ابقاء الاحترام على الجماعات الدينية الملتزمة بمبادئ الثورة.
  2. رفض جميع أنواع التمييز في شغل المناصب الثورية—و الغير ثورية—, سواءاً أكان حسب العمر أم الجنس أم القبيلة .. و جعل المعيارين الوحيدين هما الفعالية و الولاء لقيم الثورة.
  3. الاكتفاء الثوري الذاتي, و عدم الاعتماد على الأجانب في إغناء الثورة. و تصدير الثورة إن كان يراد لها التصدير لا بالحرب و إنما بإشاعة المبادئ و دعم معتنقيها. و إن وقعت حرب, فهناك تفانٍ مطلق لتحقيق النصر.
  4. لا يملك اليعاقبة عقد نقص اتجاه الآخر. لا يقارن اليعقوبي نفسه مع الآخرين, فهو موجود بذاته, و مثله الأعلى هو ذاته الأفضل, وطنه الأفضل.
  5. إن القيم اليعقوبية هي قيم مدنية و مدينية. و ليس ذلك تحقيراً للريف, بل إن الريف حليف متساوٍ مع المدينة, و العديد من اليعاقبة من الريف. إن التعبئة الثورية الأسرع لا يمكن لها إلا أن تحصل في المدينة, و إن النخب الثورية بأغلبها تأخذ المدينة مركزاً لها لحشد الثوار, و لا ينجح عادة في هذا إلا من يعرف بقيم أهل المدينة و يدرك كيفية مخاطبتهم و التعاطي معهم, لذلك يرتكز الفكر اليعقوبي على المدينة. أما السلطة, فأيضاً مركزها في المدينة أو العاصمة, و توزيع الموارد مركزه المدينة, فيما استخراج الموارد مصدره الريف. ليس المقصود هنا على الإطلاق أن الريف مهمش من قبل اليعاقبة, بل المقصود أن القيم السياسية تعكس قيم أبناء المدن أكثر من عكسها أبناء الريف. باختصار, الوحدة الأساسية للتجمع الديمغرافي محكومة بمعيار تنازلي ( يبدأ بالمدينة الكبرى و ينتهي بالقرية الأصغر) لا تصاعدي.
  6. الإنسان و الثورة غايات واجبة أخلاقياً. إلا أنه من المبرر لبلوغ هذه الغايات استخدام أخلاقيات براغماتية. مثلاً, كما تقول نظرية الألعاب: البدء بافتراض النية الحسنة للغير, ثم محاكاة سلوك الغير, فإن تعاونوا تعاونا, و إن أرهبونا أرهبناهم, و إن حاربونا حاربناهم.

(1) نادي سياسي ثوري(حزب سياسي بلغة اليوم) إبان الثورة الفرنسية, كان قد قاد الثورة حتى عام 1794. صاغ اليعاقبة شعار الثورة الفرنسية “الحرية, المساواة, الإخاء”, و دفعوا بإعلان حقوق الإنسان, فصل الدين عن الدولة, إلغاء العبودية, إعطاء حقوق الإنتخاب للجميع, و توظيف الديمقراطية المباشرة. يتجادل النقاد حيال تطرف اليعاقبة و دمويتهم مع خصومهم

* Haidt, J. (2012). The righteous mind: Why good people are divided by politics and religion. Vintage. Chicago