الصور الذهنية المؤدلجة في عقل الفرد السوري: نظرة معرفية

Untitled-1

وليد شاب سوري بلغ ال18 من العمر و لم يفعل شيئاً في حياته على الإطلاق سوى أنه ذهب إلى المدرسة, حضر دروسه, و عاد في كل يوم. سيكون مجموع الصور و الرسائل المؤدلجة المحشوة في رأسه يساوي 1368 ساعة تقريباً ببلوغه ال18 و تخرجه من الثانوية. هذا الرقم هو أكثر الأرقام محافظةً. الرسائل المؤدلجة هي كل شعار أو تلقين حزبي, أو صورة مرئية بروباغانداوية تمجد الهيمنة السلطوية لحزب البعث أو العائلة الأسدية. تتراوح هذه الرسائل من لمحات بسيطة عابرة على الطريق(و في الصف, المدرسة.. الخ) مدتها ثانية واحدة على الأقل, إلى اصطفافٍ مدرسي صباحي يستغرق 15-30 دقيقة, إلى حصة مادة القومية ذات الـ45 دقيقة. أخذنا بعين الاعتبار بعد القيام بالحسابات اللازمة أن 3.33 ساعة في الأسبوع تذهب على هذا النوع من الرسائل بالنسبة لوليد, فيما قد يصل الرقم حتى خمسة ساعات و نصف بأقصى حالاته(أي 2363 ساعة عند بلوغ ال18). مما يعني أن وليداً بعد ارتياده المدرسة لـ12 سنة, كان قد أمضى 10.4% من وقته المخصص للدراسة, وهو يتعرض للتلقين الأيديولوجي و يحفظ آلافاً من الصور و الشعارات العابرة في رأسه. إن إشغال عُشرَ الطاقة الذهنية التعليمية للأطفال و اليافعين بهذا الشكل يقيد النمو بشكل ملحوظ, فبدلاً من استثمار هذا الوقت بالتفكير النقدي و البنّاء و الرياضي, يتم تلقين أفكار جاهزة حشواً في بنية فكرية فضولية تحتاج لكل ما تقدر عليه من طاقة تفكيرية و تجربة مباشرة.

على طريق العودة إلى منزله, يرى وليد 10 رسائل مؤدلجة تقريباً, كثير منها على شكل إعلانات طرقية, و منها ما يكسو مبانٍ حكومية بشكل واضح. في كل مئة متر يمشيها, يرى وليد رسالة مؤدلجة واحدة. في المدن تتراوح المسافة بين 88 إلى 142 متراً لكل رسالة, و تغزر هذه المشاهدات عند الشوارع الرئيسية, فيما تندر في الأزّقة, مما يجعل الأحياء القديمة أقل تعرضاً لها نسبياً.

اتخذتُ مدينة حمص قبل الربيع العربي مثالاً لجنسية وليد, و ذلك لأنني أعرف بها باعتبارها مدينتي, و لأنها مدينة متوسطة الأهمية, و ينتمي أهلها إلى طبقة متوسطة و متعلمة نسبياً كما عائلة وليد. قد تختلف شدة الحشو الأيديولوجي من مدينة لأخرى, فلربما تكون حلب أهم للنظام من حمص, أو دمشق أهم من حلب. و اعتبرتُ أن وليداً لم يخرج من باب منزله قط سوى متجهاً إلى المدرسة, أي أن هذا الرقم لم يسبر سوى باحة واحدة من حياته, الباحة التعليمية, أي عُشر حياته الواعية تقريباً. في الحقيقة, حاول النظام حشو الرسائل المؤدلجة في كل مكان يقدر عليه و في جميع باحات الحياة اليومية, فلا يكاد المرء ينظر إلى مكان دون أن يجد إشارة ما تحاول تلقينه. بل إن هناك محاولات لربط مشاعر معينة كالمتعة مع صور آل الأسد, ففي ملعب كرة القدم مثلاً, أحد أهم المرافق الترويحية في المدينة, تتوسط مدرجات الجماهير صورة كبيرة للرئيس تكاد تُرى مع كل لفتة نظر. و لا يقتصر الأمر على المتعة, فالعقاب و الألم يحتمل تواجد صورة الأسد أيضاً, كما في الأفرع الأمنية المعروفة بصيتها السيء قبل أي نزاع داخلي في سوريا.

يدخل المرء البالغ مبنىً حكومياً سورياً و ذهنه مأخوذٌ بأربعة أشياء أرتّبها حسب أولويتها في الوعي: التعقيدات البيروقراطية, الرشوة, عمارة البناء البعثية الشيوعية القبيحة, و الرسائل المؤدلجة. البيروقراطية بذاتها نوع من أنواع التعذيب الغير جسدي, و العمارة “القاتلة” محسوبة مثلها. المساحة الفيزيائية المخصصة للبشر كانت و لا زالت عنصراً مهماً في التحكم بالحالة الذهنية و النفسية للأفراد.

هذا الاستنزاف الذهني و التهيئة النفسية المستمرة اتجاه المؤثرات المؤدلجة لا تسمح للمرء بالاستكانة و التفكير بشكل مستقل. و غالباً ما يصل المرء مع الوقت إلى حالة إرهاق ذهني تجعله يتجاهل المؤثرات و يتعامل معها على أنها عادية أو غير مهمة, فيما هي تعمل عملها في لاوعيه.

ليست الحكومة لوحدها ما يوّلد الأيديولوجيا. معظم مشاهدات السوريين في الشارع مقتصرة على مؤسستين و أيديولوجيتين, مؤسسات حكومية, و مؤسسات دينية. من شبه المعدوم تواجد مؤسسات مجتمع مدني أو نوادٍ ثقافية أو حتى مكتبات عامّة.و تُعَوِضُ المؤسسة الدينية عن هذا الفراغ بحضور كبير قد يغلب الحضور الحكومي. يبدو أن هناك نسبة مسجد واحد إلى كل ثلاثة أبنية حكومية تقريباً في كل من أحياء المدينة. كلاً من المؤسستين(دينية و حكومية) تشغران وظيفة مهمة مستقلة لوحدها, بالإضافة إلى تفاعلهما و تعاونهما على تنظيم الذهنية العامة و الشعور بالمتعة و الخوف, و الانفتاح و القمع. للمسجد في سوريا وظيفتان مجتمعيتان معترف بهما, التلقين الأخلاقي(الذي بات احتكاراً أخلاقياً في الآونة الأخيرة), و التحكم بمشاعر الترغيب و الترهيب. فإن شدّت الحكومة خيط الترهيب, أتى الجامع ليرخيه بالترغيب معطياً الناس مجالاً للتنفيس, و إن أرخت الحكومة خيط الترغيب, أتى الجامع لينتقد “الانحطاط الأخلاقي لشباب العصر” و يشد الخيط من جديد. و هناك وظيفة روحية واحدة متمازجة مع الأيديولوجيا الحكومية و هي الميتافيزيقيا, أي الإجابة على ال”لماذا” التي لم يجب عليه النظام في مناهجه التعليمية و بروباغاندته. نسبة الارتداد إلى الجوامع متوسطة إلى عالية نسبياً, فهي تعمل عمل نقطة تجمع إجتماعي, لا مركزاً روحياً فقط.

بالعودة إلى وليد, و على فرض أن وليد متعلم و متدين تديناً تاماً, فيكون قد استغرق في طقوسٍ دينية ما مدته 7480 ساعة من حياته, و إن جمعناها مع الأدلجة الحكومية في المدرسة, نحصل على 8823 ساعة(أي سنة كاملة مستمرة من حياته ذات ال18 عاماً) و هو يتعرض للتلقين الحكومي و الديني. أما إن كان متوسطاً دينياً(+متعلم) فيكون قد أمضى 4093 ساعة. و في حال ضعفه دينياً(+متعلم) فيكون قد أمضى 2200 ساعة.

لا يخفى أن هذه الأرقام خطيرة و متفجرة, فتعرض أحدهم لما مقداره سنة مستمرة من أي أدلجة كانت, قد يوديه إلى اضطرابات في ضبط حركة الصور الذهنية المؤدلجة, و ضعف التركيز, و مشاكل نفسية, و انقسامات هويوية, و فكر مُطلَقِي.

و قد حظي الجامع بمكانة عالية لأن التجمع علناً ممنوع في سوريا سوى في أماكن مُعلنة تعلّم السوريون عليها كما لو أنها جزء من الغريزة, كالملعب و الجامع و المرافق التعليمية فقط. يُذكر أن حتى هذه التجمعات كانت تزعج الحكومة بين الحين و الآخر, فأحداث ملعب قامشلو في 2004 و التظاهرات الخارجة من الجوامع و الجامعات في الربيع العربي دعت الحكومة السورية على القيام بحملات تطهير مسّت الحجر(الأبنية) و البشر. و دوماً ما كان هناك شعور بوجود تناقض بين طبيعة المجتمع الجمعية و طبيعية القوانين التي تقنن التجمع.

الطبيعة الجمعية للمجتمع السوري تهيمن على هوية الفرد بشكل مطلق, سواءاً كانت هوية علمانيةً أم دينية, مما يسهّل التحول نحو الإمّعية و تلاشي الشخصية الذاتية, أي تسهيل السلوك اللأخلاقي و الغير واعي المنقاد جمعياً. و لا يكمن حل هذه المشكلة في رأيي بالفردانية المطلقة, و إنما بتوازن بين الفردانية و الجمعية كخطوة أولى على الأقل. و لا يمكن لهذه أن تأتي دون وجود مؤسسات تعادل الثقل الجمعي, أي مؤسسات فردانية تستطيع توليد حس فرداني مستقل, أعني بهذا منظمات مجتمع مدني و نوادٍ ثقافية من التي غُيِّبَ عنها المجتمع السوري. إن طبيعة مجتمعنا الحالية تجعل من أي طغيانٍ للكفة الجمعية على الكفة الفردانية—و لربما العكس بالعكس—من الميزان اختلالاً كبيراً و أزمة هويوية توعد بالإنفجار, و هذا ما برهنت عليه الأزمة السورية اليوم. حتى الحاضر, لا توجد هوية سورية جمعية تعترف بمساحة فردانية و تساعد الفرد على بناء هويته المستقلة, بل صَمَّمَتْ كلها تاريخياً على أن تجعل الجمع فوق الفرد بالمطلق. و جميع الهويات الفردانية المتوافرة تتنكر تنكراً شبه تامٍ للإنتماءات الجمعية السورية, مما يجعلها ضعيفة الإقبال و عنينة التمثيل.

إن النموذج المعرفي لمعانٍ تجريدية كالـ”سلام” أو الـ”وطنية”, يعتمد تماماً على ما تعرّض له المرء من صور مؤدلجة و حشو معرفي. فقبل الربيع العربي, اعتمد السوريون لإدراك معنى كلمة “سلام” على وجود إسرائيل, و كلمة “وطنية” على وجود “حكومة”, و كلمة “أخلاق” على وجود الشيخ, و كلمة “نضال” على وجود السلاح. لم يستطع السوريون تعريف المعانِ هذه بتجريد, أي لم يستطيعوا إلا أن يدركوها بعد ضرب الأمثلة الحسية. بالطبع, حتى اختيارهم للمثال لم يكن لهم حرية به, فقد كان المثال مصمماً و جاهزاً لهم من قبل بشكل يتناسب مع الأيديولوجيا المهيمنة. و قد سُمح في بعض الأحيان لهذه الأمثلة بأن تكون ضبابية و غير مرئية و مفتوحة للتفسير, مثل المثال المذكور أعلاه “إسرائيل”, فلم يرَ السوريون إسرائيلياً قط, ولم يتكلموا أو يحتكوا أو يعرفوا لغته حتّى, و لا علم لهم بخواص المجتمع الإسرائيلي إلا مما يتلقوه من الإعلام الرسمي بالطبع.. فوظيفة هذا المثال—و ما شابهه بالضبابية—أن يكون محط إسقاط نفسي, بحيث يكمل المرء الفراغات الناقصة من تجربته الخاصة, و (يُبدع) و يختلق القصص و التحليلات و النتائج غير آبهٍ بالأمانة و المصداقية المعرفية. يقول الناقد الاجتماعي و الفيلسوف سلافوي جيجيك أن هذه المساحة المفتوحة للتفسير و الإسقاط هي من أهم ما تبني عليه الأيديولوجيا وجودها. و الفرق الأهم بين التعريف التجريدي و التعريف المحسوس, أن الأول يعتمد على الذات فقط دون الحاجة إلى وجود كيان خارجي تفسر المعنى نسبة إليه, فيما يقوم التعريف المحسوس—أي المثال—على شرط وجود كيان خارجي يجبرك أن تعتمد عليه لا على نفسك في التفسير و المقاربة. بالفعل, إن هذا الكيان الخارجي الذي علّق السوريون عليه معنى الأمور كلها كان مصدره النهائي في أغلب الأحيان تلكم الأيديولوجيتان: إما الحكومية, أو الدينية.

بلعبة بسيطة مع أصدقائي(أو أصدقاءكم إن أردتم) يمكننا أن نرى وقع مأساتنا الذهنية: أسألهم أن يقولوا لي أول كلمة أو صورة تخطر على بالهم مباشرة بعد تلفظي بكلمة ما, فمثلاً, أقول “تفاح” , يرد صديقي: “فواكهة” .. “كتاب” و الرد: “مكتبة”, سبورة: طبشورة.. الخ.. تمشي التجربة البسيطة هذه بما يشابه المحادثة التالية:

تفاحة: أحمر

كتاب: ورق

سيارة: دولاب

كرة: ملعب

أخضر: عشب

رصيف: شجرة

حديقة: زهرة

.

.

و بعد عدد من الربط الحر بهذا الشكل أسأل:

*حزب: البعث*

باص: مقعد

بسكويت: شاي

.

.

*سوريا: العلم السوري*

.

.

*وطن: كتاب القومية*

.

.

*رئيس: بشار الأسد*

.. الخ

أحياناً أصادف شيئاً مثل: خطر: سلاح.. سلاح: جيش. 100% من المرات يكون الرد اتجاه “حزب” بـ “البعث”, فيما تتغير الردود المهمة الأخرى دون أن تبتعد عن السمة المؤدلجة نفسها. لا تخرج هذه الأجوبة عن تفكير و و لا حاجة لاستدعائها, إنها موجودة للوصول المباشر و السهل في الوعي, فهذه الردود يتم نطقها في أقل من ثانية.

لدينا إذاً عقلية مقولبة بآلاف الصور و آلاف الساعات بهدف التدجين و سهولة التحكم, و إرادة فردية شبه معدومة على حساب إرادة المجموع, و دور “ذاتي” مهمش على حساب دور “الآخر”, سواءاً كان الآخر مجتمعاً أم ميتافيزيقيةً. و أيديولوجيا تملأ الذهن بصور معينة دون صور أخرى. يولد هذا عجزاً مكتسباً, أي عدم اكتراث بما يحصل مع المرء, فالقدر “مكتوب” مسبقاً, و شروط الوجود في الحاضر مفروضة بدون حول ولا قوة, و على المرء تقبل قدره كما هو و عدم المقاومة أو التذمر مهما كان مؤلماً. و حتى و إن نجح المرء في إنجاز شيء ما, إذ قاوم و استحق مكانة و قوة ترفعه أقرب إلى مرتبة الإنسان, فترى الأيديولوجيا أقوى منه حتى هنا, فيعزو إنجازه لا لنفسه, و إنما يزيحه إلى كيان خارجي. عندما دخلت الثورة السورية بحقبة انحطاطها, أي عندما بدأت تتحول نحو الأدعية و الأغاني الثورية بدلاً من الهتافات الموجهة, تم إعزاء كل ما نجح الثوار بتحقيقه إلى شيء مثل “رحمة الله و توفيقه” لا إلى الدافع الثوري لديهم, و انتقلنا تدريجياً من (1) دعوات الاكتفاء الثوري الذاتي “يا للعار يا للعار.. عالشب القاعد بالدار”, و التي أعطت معنىً جديداً للـ”عار” , بل و أعطت معنىً جديداً ل “شب” مضعّفةً من تجنيس الكلمة لتشمل الإناث أيضاً, (2) إلى إحالات خارجية “صمتكم يقتلنا .. غير الله ما إلنا”, و ” يا عالم شو عم تستنا.. جيبو الناتو وتعال عنا”, فقد أصبحت الثورة دعوة و استجداءاً للخارج و الغائب بدلاً من دعوة الذات, (3) ثم أخيراً إلى إعزاء و إحالة ميتافيزيقية بالكامل “و ما رميت إذا رميت و لكن الله رمى .. هي لله هي لله..”. هنا, لم يعد هناك أهمية لبراعة الرامي, أو شجاعة المتظاهر, أو إصرار المعتصم, أو تحدي المضربين, أو تعب الثوار. فَقَدَ الفرد اعتباره مرة أخرى, و أخصِيَ دوره و جهده. انسحبت الأطر الثورية الأولى بالجملة من بعد هذا التحول. شهدنا أمام أعيننا ولادة أيديولوجيا مستبدة من ثورتنا, أيديولوجيا أعادت تدوير ديكتاتورية البعث من جديد. كان من المفروض أن تكون الثورة نبذاً للمخططات الذهنية و التعريفات القديمة كلها, و أن نبدي المعنى لها من جديد, لا أن ننسخ المعنى منها و نستخدمه نفسهُ نفسهْ, لا أن نغيير كلمات الأغنية مع الحفاظ على لحنها, بل أن نغيرها كلها بألحانها و كلماتها. ما إن فقدنا قدرتنا على التحكم برموزنا, حتى فقدنا الثورة كلها. لم ينتصر وليد قط, بل انتصرت كل هذه الصور الموجودة في رأس وليد.